للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حاشاه - عليه السلام - من ذلك، بل الحق أنَّ ما فعله مأذون له فيه، لما فيه من جلب مصلحة عظيمة، وهي إقامة الحجة على قومه، ودحض باطلهم.

والكذب إنما يكون مُحرّماً إذا ترتب عليه مفاسد، وضياعٌ لحقوق الآخرين، وأما إذا كان لغرض شرعي، وفيه مصلحة؛ فإنه لا محذور فيه، وهذا ما قررته الشريعة؛ فإنه قد أُبيح الكذب في ثلاثة مواطن، في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفي كذب الزوجين بعضهما على بعض؛ لمصلحة تتعلق بهما (١)، وما أُبيح للأمة فهو مباح للأنبياء - عليهم السلام - إلا أنْ يأتي دليل يخصهم بالمنع.

«وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً؛ ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً، وسأل عن ذلك، وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم». (٢)

وقد نبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ كذبات إبراهيم - عليه السلام - ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم، وذلك بقوله: «ثنتين منها في ذات الله»، وإنما خص الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى؛ لكون الثالثة تضمنت نفعاً وحظاً لإبراهيم - عليه السلام - مع كونها في ذات الله أيضاً؛ لأنها كانت سبباً في دفعِ كافرٍ ظالمٍ عن مواقعة فاحشة عظيمة، وقد جاء في رواية أخرى ما يدل على ذلك، وهذه الرواية قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ» (٣). (٤)

وبعد هذا التقرير سأذكر بعضاً من الأدلة، التي تؤيد صحة ما ذهبت إليه، من وجوب حمل الآيات والأحاديث على ظاهرها:


(١) عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ».
أخرجه الترمذي، في سننه، في كتاب البر والصلة، حديث (١٩٣٩)، وحسنه الألباني، في «صحيح الجامع»، حديث (٧٧٢٣).
(٢) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (١٥/ ١٨٠ - ١٨١).
(٣) سبق تخريجه في أول المسألة، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(٤) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (١٥/ ١٨١).

<<  <   >  >>