ينفي ذلك. فمن يحيا مثل حياة أحمد بن حنبل، ومن يصمد صموده يوم المحنة، ومن يخرج للناس مثل المسند، ومن يطبع تلاميذه بطابع التقوى والصلابة في الحق - وهي كلها حقائق واقعة - لا يستكثر عليه ما قيل فيه، وعلى كراهة الأتقياء لأحاديث المديح والثناء. فإن يحيى بن معين، عندما أكثر جلساؤه الثناء على أحمد بن حنبل وقال رجل لا تكثروا. بعض هذا قال "وكثرة الثناء على أحمد تستكثر؟ لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها".
والحق أن شخصية الإمام أحمد بن حنبل وخلقه القوي وترفعه عن الدنايا وزهده في زخرف الدنيا هو ما لا يقل قيمة وأثرًا عن جمع الإمام أحمد للمسند أو موقفه يوم المحنة؛ لأنه أورث أتباعه هذا الخلق بحيث كاد أن يكون طابعًا عامًّا يغلب عليهم، وقد وصف أبو الوفاء بن عقيل الفقيه الحنبلي المتوفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة أصحابه الإمام أحمد بعد مرور زهاء ثلاثة قرون.
"هم قوم خشن، تقلصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل وغربت نفوسهم عن ذل المراءاة. وفزعوا عن الآراء إلى الروايات وتمسكوا بالظاهر تحوجا من التأويل وغلبت عليهم الأعمال الصالحة فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا الله أعلم بما فيها خشية من باريها".
ونسب خمول المذهب الحنبلي إلى ورع أصحابه × هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم.
أما أصحاب أحمد، فإنه قل فيهم من تعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم فيتقطعون عن التشاغل بالعلم".
فإذا كان هذا هو حال أصحاب أحمد بعد ثلاثة قرون من وفاته، فلنا أن نتصور أثره في تلاميذه ومريديه الذين جلسوا إليه وتأدبوا بأدبه وبحق قال تلميذه أحمد بن محمد بن هاني أبو بكر الأقرم "أحمد بن حنبل رضي الله عنه ستر من الله على أصحابه فينبغي لأصحاب أحمد أن يتقوا الله ولا يعصوه مخافة أن يعيروا بأحد" ورفض تلميذه الآخر إبراهيم بن إسحق الحربي أن يقبل عشرة آلاف درهم أرسلها الخليفة المعتضد،