وقد وقف الإمام أحمد رضي الله عنه موقفين جديرين بالتأمل والتقدير.
الأول: موقف الصلابة والبطولة وإيثار الموت على التفريط أو التسليم، وأن "التقية" لا يمكن أن تقبل من الإمام الداعية القدوة وإن قبلت من سواد الناس وجماهيرهم.
والثاني: العبارة التي أجمل فيها الإمام أحمد رضي الله عنه رده على هؤلاء المعتزلة فرسان الكلام وأئمة الجدل. فقد رفض أن يدخل في نقاش، وتمسك بصيغة واحدة محددة لا لبس فيها "أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول فيه" وقد أجمل الإمام أحمد في كلمته هذه المذهب الأمثل والعقيدة السليمة، فما لم يأت القرآن أو الحديث بشيء في هذا المجال، فإن الجدل والرأي وإعمال الفكر مستبعد تمامًا، ولا محل له لإنه يتعلق بصفات الله عز وجل. وهي صفات لا يدركها العقل البشري ولا تخضع لأحكامه أو تصوراته - ولو جاز أن يهتدي إليها العقل لما كان ثمة حاجة لإرسال الرسل وبعثة الأنبياء ولجاز أن يقوم بهذا الفلاسفة أو العلماء. فالذين يتصورون أن العقل البشري يستطيع أن يدرك صفات الله تعالى، إنما يطعنون الدين ويحاولون هدمه وخدع الناس بمفترياتهم {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}.
وكل ما سوى الإيمان القلبي في هذا المجال فهو مجازفة خطرة، وأخذ بأقيسة باطلة. واعتماد على براهين عاجزة أو فاسدة، وتوريط للنفس في متاهات دون هدًى أو دليل، ولعل الإمام أحمد رضي الله عنه كان يستطيع أن يفند هذه الدعوى ويدخل في الجدل ولكنه آثر أن يقف موقف أهل السنة، وأن يضع - في هذه المسألة الكبرى من مسائل الاعتقاد - السنة والاتباع في مواجهة الهوى والابتداع؛ لأن هذا الوضع الحاسم في هذه القضية - ولأن الاجتهاد مستبعد أصلًا في هذا المجال بحيث لا يمكن التفكير فيه كوسيلة للانتصار وكسب الخصوم. فالإمام أحمد كان يرى حل المشكلة إنما يكون في "الموقف" الذي وقفه وبالتالي لا يكون هناك داع لحل آخر. ولو أراد مثل هذا الحل لما أعوزه، ولما كان يعجزه أن يقول ما قاله واحد من عامة المسلمين عندما جابه أحمد بن أبي داود "شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، تدعو أنت الناس إليه .. ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه. فإن قلت علموه وسكتوا عنه وسعني وإياك من السكوت ما وسع القوم، وإن قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع بن لكع: يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئًا وتعلمه أنت".