كما لم يكن ليدق على ذكاء الإمام أحمد وفراسته ما أدركه أحد أتباع الواثق عندما دخل عليه يومًا وقال له "يا أميرالمؤمنين أعظم الله أجرك في القرآن" فقال ويلك القرآن يموت؟ قال يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت.
كان الإمام أحمد رحمه الله يستطيع أن يقول شيئًا كهذا ولكنه لم يكن يريد خلاصًا من محنة أو انتصارًا على الخصوم ولكن تقريرًا لمبدأ، وتحديدًا لموقف وكيف يميل الإمام أحمد ويجادل في عقيدة وهو الذي يحمل بين جنبيه كتاب الله وتمتزج روحه بالسنة المطهرة ومن هنا قال "أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به".
وفي كلام الإمام أحمد، وفي كثير من كتبه ووصاياه بين أن الموقف السليم هو ترك الجدل والمراء وإطراح الخصومات والأهواء والوقوف عند السنة المطهرة، وعدم إفساد القلوب بهذه الشبه والاستدلال على الله ببديع صنعه وسابغ نعمه بل الاستدلال عليها بخالقها ومبدعها جل جلاله.
ذكر مرضه ووفاته رحمه الله:
قال المروزي: مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول ومرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلون عليه أفواجًا يسلمون عليه ويرد عليهم بيده وتسامع الناس وكثروا، وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة الأخبار ثم أغلق باب الزقاق فكان الناس في الشارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة وحيل بينهم وبين البيع والشراء، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه وصل من بعض الدور وطرر الحاكة وربما تسلق وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب وجاء حاجبه ابن طاهر فقال إن الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقال هذا مما أكره وأمير المؤمنين أعفاني مما أكره! وأصحاب الخبر يكتبون بخبره إلى العسكر والبرد تختلف كل يوم وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون، وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين قال: ادعوا لي الصبيان بلسان ثقيل فجعلوا ينضمون إليه وجعل يشمهم ومسح بيده على رؤوسهم وعينه تدمع.
فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع.