للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الإمام القرطبي رحمه الله: " اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} فقال مجاهد: هي محكمة. فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل, والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان, لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة, وقوله على هذا: إلا الذين ظلموا منهم معناه: ظلموكم, وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق.

وقيل: المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلام ومن آمن معه, (إلا بالتي هي أحسن) أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك.

وقوله على هذا التأويل (إلا الذين ظلموا) يريد به من بقي على كفره منهم, كمن كفر وغدر وقد حصل هذا الموقف من بني قريظة والنضير وغيرهم, والآية على هذا أيضا محكمة.

وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال, أي: قوله تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... } (١) قاله قتادة.

ثم قال القرطبي: "وقول مجاهد حسن؛ لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول, واختار هذا القول ابن العربي (٢) " (٣).

وهذا هو الصحيح بأنه يجوز للمؤمنين أن يقوموا بدعوة أهل الكتاب إلى الله في كل زمانٍ ومكان, وكذلك غيرهم من المشركين؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (٤).

ووجه الدلالة أن مجادلة أهل الكتاب تكون في سبيل دعوتهم إلى الإيمان, وإخراجهم من الظلمات إلى النور وهي من إتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولكن يجب أن يكون هذا الجدال قائماً على آداب لا بد من مراعاتها حتى تؤتي المجادلة ثمارها, وإنما أوجبنا مراعاة الآداب لقوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإنه قيد مجادلة أهل الكتاب بقوله: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والله اعلم.

وسنقوم بذكر بعض آداب الجدال تنبيهاً على أهميتها وهي كما يلي:


(١) سورة التوبة الآية: (٢٩).
(٢) القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، ولد (٤٦٨ هـ)، وتوفي في (٥٤٣ هـ)، ومن أعظم مؤلفاته: أحكام القرآن. انظر: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: ١٠٥)، وطبقات المفسرين للداوودي (٢/ ١٦٧) وطبقات المفسرين للأدنروي (ص: ١٨٠).
(٣) انظر: الجامع لأحكام القرآن (١٣/ ٣٥٠) مرجع سابق.
(٤) سورة يوسف الآية: (١٠٨).

<<  <   >  >>