للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الاضطهاد، وعاملهم بالحسنى، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه؛ ولكنهم كانوا دائماً كما كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عقارب وحيات وثعالب وذئاباً تضمر المكر والخيانة، ولا تني تمكر وتغدر, إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد، وتآمروا مع كل عدو لهم، حتى تحين الفرصة، فينقضوا عليهم، قساة جفاة لا يرحمونهم، ولا يرعون فيهم إلَّاً ولا ذمة" (١).

قال الإمام الزمخشري: "واليهود موسومون بالغدر, ونقض العهود, وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا, وكم عاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يفوا" (٢).

[الآية الثانية]

قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (٣).

أما العهد المذكور في هذه الآية فقد قرر الرازي بأن هذا الخلق الذميم: " ليس ببدع منهم, بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال! لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك".

فكان نبذهم لكتاب الله كمن يرمي بكتاب الله وراء ظهره من شدة الإعراض عنه, ثم ذكر الرازي أن المقصود من نبذهم لكتاب الله: هو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر؛ استغناء عنه وقلة التفات إليه. ثم قال: "والعهد في هذه الآية فيه أربعة وجوه:

أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - , وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى, وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى.

وثانيها: أن العهد هو الذي كانوا يقولونه قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم -: لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم (٤).

أقول: وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون نبوة محمد رسول الله كما يعرفون أبناءهم, وكانوا يستفتحون به على العرب في الحروب التي كانت تدور بين اليهود وبعض القبائل العربية, ويقولون:


(١) انظر: في ظلال القرآن, (٢/ ٨٥٩) مرجع سابق.
(٢) انظر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، (١/ ١٩٧) مرجع سابق.
(٣) سورة البقرة الآية: (١٠٠).
(٤) انظر: تفسير الرازي مفاتيح الغيب (٣/ ١٨٣ - ١٨٤) مرجع سابق.

<<  <   >  >>