رؤوسِ الجبالِ، فقالَ لهُ نوحٌ: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود: ٤٣] فلا يعصمُ جبلٌ ولا حصنٌ ولا غيرُ ذلكَ، إلا مَنْ رحِمَ اللهُ، ورحمتُهُ في تلكَ الحالِ متعينةٌ في ركوبِ السفينةِ معَ نوحٍ، ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ [هود: ٤٣] فكان ذلكَ الابنُ من المغرقينَ.
فأغرقَ اللهُ جميعَ الكافرينَ، ونجَّى نوحًا ومَن معهُ أجمعينَ، وكان في ذلكَ آيةٌ على أنَّ ما جاءَ بهِ نوحٌ -من التوحيدِ والرسالةِ والبعثِ والدينِ- حقٌّ، وأنَّ مَنْ خالفَهُ فإنهُ مبطلٌ، ودليلٌ على الجزاءِ في الدنيا لأهلِ الإيمانِ بالنجاةِ والكرامةِ، ولأهلِ الكفرِ بالهلاكِ والإهانةِ.
فلما حصَلَ هذا المقصودُ العظيمُ أمَرَ اللهُ السماءَ أنْ تقلعَ عن الماءِ، والأرضَ أنْ تبلعَ ما فيها، ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ [هود: ٤٤] أي: نقُصَ شيئًا فشيئًا، ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ السفينةُ بعدَ غيضِ الماءِ ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾ وهوَ جبلٌ شامخٌ معروفٌ في نواحي «الموصل»، وهذا دليلٌ على أنَّ جميعَ الجبالِ قدْ غمرَتْها المياهُ وجاوزَها الطوفانُ.
وحزِنَ نوحٌ على ابنهِ؛ فقالَ مناديًا ربَّهُ مترققًا متضرِّعًا: يا ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ [هود: ٤٥] أنْ أحملَ معي أهلي وأنتَ أرحم الراحمينَ، فقالَ لهُ ربهُ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أي: الموعودِ بنجاتِهم؛ لأنَّ اللهَ قيَّدَ ذلكَ بقولهِ: ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ [هود: ٤٠]، ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: ٤٦] أي: هذا الدعاءُ لابنِكَ الذي على دينِ قومهِ بالنجاةِ، ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: ٤٦] وهذا عتابٌ منهُ لنوحٍ وتعليمٌ لهُ وموعظةٌ عن مثلِ هذا الدعاءِ، الذي إنما حملَهُ عليهِ الشفقةُ الأبويةُ، وإنما الواجبُ في الدعاءِ أنْ يكونَ الحاملُ لهُ العلمَ والإخلاصَ في طلبِ رضا اللهِ تعالى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute