• وقولُهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧] أي: مبادرةً منهم إلى الإيمانِ بكَ يا نوحُ، لم يُشاورِوا ولمَ يتأنَّوا ويتروَّوا. لوْ فُرِضَ أنَّ هذا حقيقةٌ فهذا من أدلةِ الحقِّ، فإنَّ الحقَّ عليهِ من البراهينِ والنورِ والجلالةِ والبهاءِ والصدقِ والطمأنينةِ، ما لا يحتاجُ إلى مشاورةِ أحدٍ باتباعهِ، وإنما التي تحتاجُ إلى مشاورةٍ هيَ الأمورُ الخفيةُ، التي لا تُعلمُ حقيقتُها ولا منفعتُها، أما الإيمانُ الذي هوَ أجلَى من الشمسِ في نورِها، وأحلَى من كلِّ [شيءٍ](١)، فما يتأخرُ عنهُ إلا كلُّ متكبرٍ جبارٍ أمثال هؤلاءِ الطغاةِ البغاةِ.
• وقولُهم: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ [هود: ٢٧] هلْ في هذا الكلامِ شيءٌ من الإنصافِ بوجهٍ؛ لأنهم يخبرونَ عن أنفسِهم، وكلامُهم يَحتملُ أنهُ الذي في قلوبِهم، ويحتملُ أنهم يقولونَ ما لا يعتقدونَ، وعلى كلا الأمرينِ فالحقُّ يجبُ قبولهُ، سواءٌ أقالَهُ الفاضلُ أو المفضولُ؛ الحقُّ أعلى من كلِّ شيءٍ.
• وكذلكَ قولُهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] معلومٌ أنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ، ثم لوْ قالوا: بلْ نَعلَمُكم كاذبينَ، فهذهِ كلُّ مبطلٍ يقدرُ أنْ يقولَها، ولكنْ بأيِّ شيءٍ استدلَلْتُم أنهم كاذبونَ؟ فهذهِ أدلتُهم وبراهينُهم أَبطلَتْ نفسَها بنفسِها كما ترَى، فكيفَ وقدْ قابلَها الرسلُ بالأدلةِ والبراهينِ المتنوعةِ التي لا تُبقي ريبًا لأحدٍ في بطلانِها.
* ومنها: أنَّ من فضائلِ الأنبياءِ وأدلةِ رسالتِهم إخلاصَهم التامَّ للهِ تعالى في عبوديتِهم للهِ القاصرةِ، وفي عبوديتِهم المتعديةِ لنفعِ الخلقِ كالدعوةِ والتعليمِ وتوابعِ ذلكَ؛ ولذلكَ يُبدونَ ذلكَ ويعيدونَهُ على أسماعِ قومِهم، كلٌّ منهم يقولُ: ﴿يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ [هود: ٢٩].