للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا وإبراهيمُ لم يغضَبْ ولم يقابِلْ أباهُ ببعضِ ما قالَ، بلْ قابَلَ هذهِ الإساءةَ الكبرى بالإحسانِ فقالَ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ [مريم: ٤٧] أي: لا أتكلمُ معكَ إلا بكلامٍ طيبٍ (١)

لا غلظةَ فيه ولا خشونةَ، ومعَ ذلكَ فلستُ بآيسٍ مِنْ هدايتِكَ: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: ٤٧] أي: برًّا رحيمًا، قدْ عوَّدَني لطفَهُ، وأجْرَاني على عوائدهِ الجميلةِ، ولم يزَلْ لدعائِي مجيبًا.

فلم يزَلْ إبراهيمُ معَ قومهِ في دعوةٍ وجدالٍ، وقدْ أفحمَهم وكسرَ جميعَ حججِهم وشبهِهم، فأرادَ أنْ يقاومَهم بأعظمِ الحججِ، وأنْ يصمدَ لبطشِهم وجبروتِهم وقدرتِهم وقوتِهم، غيرَ هائبٍ ولا وجلٍ، فلما خرجوا ذاتُ يومٍ لعيدٍ من أعيادِهم وخرجَ معهم، ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾ لأنهُ خشيَ إنْ تخلَّفَ لغيرِ هذهِ الوسيلةِ لم يدرِكْ مطلوبَهُ؛ لأنهُ تظاهرَ بعداوتِها والنهيِ الأكيدِ عنها وجهادِ أهلِها، فلما برزوا جميعًا إلى الصحراءِ كرَّ راجعًا إلى بيتِ أصنامِهم، فجَعَلها جُذاذًا كلَّها، إلا صنمًا كبيرًا أبقَى عليهِ؛ ليُلزِمَهم بالحجةِ.

فلما رجعُوا مِنْ عيدِهم بادرُوا إلى أصنامِهم صبابةً (٢) ومحبةً، فرأَوا فيها أفظعَ منظرٍ رآهُ أهلُها، فقالوا: ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٩ - ٦٠] أي: يعيبُها ويذكرُها بأوصافِ النقصِ والسوءِ، ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾، فلما تحققوا أنهُ الذي كسرَها، ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)﴾ أي: بحضرةِ الخلقِ العظيمِ، ووبَّخُوهُ أشدَّ التوبيخِ ثم نكَّلُوا بهِ، وهذا الذي أرادَ إبراهيمُ؛ ليظهرَ الحقُّ بمرأى الخلقِ ومسمعِهم، فلما جُمِعَ الناسُ وحضَرُوا، وحضَّرُوا إبراهيمَ قالوا: ﴿أَأَنْتَ


(١) بعدها في (خ): لين.
(٢) بعدها في (خ): بها.

<<  <  ج: ص:  >  >>