للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صاحبُ الغنمِ الغنمَ ينتفعُ بدرِّها ولبنِها ودهنِها وصوفِها ومَغَلِّها؛ مقابلةَ ما كانَ بصددِ أنْ ينتفعَ بحرثهِ في هذهِ المدةِ، فكان هذا الحكمُ من سليمانَ أقربَ إلى الصوابِ، وأنفعَ لصاحبِ الغنمِ والحرثِ؛ فلهذا قالَ تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩].

ونظيرُ هذهِ القضيةِ: حكمُ داودَ وسليمانَ بينَ المرأتينِ اللتينِ خرجتَا ومعَ كلِّ واحدةٍ ابنُها، فعدا الذئبُ على ابنِ الكبرى، فادَّعتِ الكبرى على الصغرى أنَّ الذئبَ أكلَ ابنَ الصغرى، وأنَّ الذي سلمَ من الذئبِ ابنُها، والمرأةُ الصغرى أنكرَتْ وقالتْ: بلْ الذئبُ أكلَ ابنَ الكبرى.

فتحاكمَا إلى داودَ، [فلما لم] (١) يرَ لكلٍّ منهما بينةً إلا قولَها، رأى أنْ يحكمَ بهِ للكبرى؛ اجتهادًا ورحمةً بها لكبرِها، وأنَّ الصغرى في مستقبلِ عمرِها سيرزقُها اللهُ ولدًا بدلَهُ.

ثم رُفعتِ القضيةُ إلى سليمانَ، فقالَ لهما: ائتُوني بالسكينِ أشقُّهُ بينَكما، فرضِيتِ الكبرى، وقالتِ الصغرى -لما دارَ الأمرُ بينَ تلفهِ أو بقائهِ بيدِ غيرِها وهوَ أهونُ الأمرينِ عليها-: هوَ ابنُها يا نبيَّ اللهِ، فعَلِمَ سليمانُ بهذا الأمرِ الطبيعيِّ الذي هوَ من أقوى البيناتِ أنهُ ليسَ ابنًا للكبرى؛ لكونِها رضيَتْ بشقهِ وإتلافهِ، وأنَّ دعواها على الأخرى إنما حملَها عليهِ الحسدُ، وأنهُ ابنُ الصغرى حين فزعَتْ من شقِّهِ إلى التنازلِ عن دعواها، فقضَى بهِ سليمانُ للصغرى.

ولا ريبَ أنَّ استخراجَ الصوابِ في القضايا بالبيناتِ والقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ؛ من الفهمِ الذي يخصُّ اللهُ بهِ مَنْ يشاءُ.


(١) كذا في (خ). وفي (ط): فلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>