وكان قدْ رأى المَلَكُ على صورتهِ فانزعَجَ، فجاءَ إلى خديجةَ أيضًا تُرْعَدُ فرائصهُ فقالَ:«دثِّرُوني دثِّرُوني»(١)؛ فأنزلَ اللهُ عليهِ: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)﴾ [المدثر: ١ - ٥] الآيات.
فكان في هذا: الأمرُ لهُ بدعوةِ الخلقِ وإنذارِهم، فشمَّرَ ﷺ عن عزمهِ، وصمَّمَ على الدعوةِ إلى ربهِ معَ علمهِ أنهُ سيُقاوِمُ بهذا الأمرِ البعيدَ والقريبَ، وسيَلقَى كلُّ معارضةٍ من قومهِ ومن غيرِهم، وشدةٍ، ولكنَّ اللهَ أيدَهُ وقوَّى عزمَهُ، وأيدَهُ برُوحٍ منهُ، وبالدِّينِ الذي جاءَ بهِ.
وجاءتْهُ سورةُ الضحى في فَتْرَةِ الوحيِ لما قالَ المكذبونَ: إنَّ ربَّ محمدٍ قلَاهُ، قالَ: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾ [الضحى: ١ - ٣] إلى آخرِها، وهذا اعتناءٌ عظيمٌ من اللهِ برسولهِ، ونفْيٌ لكلِّ نقصٍ، وبشارةٌ بأنَّ كلَّ حالةٍ لهُ أحسنُ مما قبلَها، وخيرٌ منها، وأنَّ اللهَ سيعطيهِ من النصرِ والأتباعِ والعزِّ العظيمِ وانتشارِ الدِّينِ ما يرضيهِ.
* فكان أعظمُ مقاماتِ دعوتهِ: دعوتهُ إلى التوحيدِ الخالصِ، والنهي عن ضدِّهِ، دعا الناسَ لهذا، وقرَّرَهُ اللهُ في كتابهِ، وصرَّفَهُ بطرقٍ كثيرةٍ واضحةٍ تبينُ وجوبَ التوحيدِ وحسنَهُ، وتعيِّنُهُ طريقًا إلى اللهِ وإلى دارِ كرامتهِ، وقرَّرَ إبطالَ الشركِ والمذاهبِ الضارةِ بطرقٍ كثيرةٍ احتوَى عليها القرآنُ، وهيَ أغلبُ السورِ المكيةِ.