في ذلك العام ألف أبو القاسم كتابه الخالد في الجراحة، هذا الكتاب الذي ظل قرونًا عديدة أهم مرجع بل المرجع الوحيد في هذا الفن، كما عالج البيروني -أرسطو العرب- دوران الأرض حول الشمس، واكتشف ابن الهيثم قوانين الإبصار كما أجرى تجاربه على آله تصوير مظلمة مستخدمًا مرايا وعدسات مخروطية وأسطوانية وكروية. في ذلك العام وهو عام التحول في العالم العربي إذ آذنت شمسه بأفول كانت أوربا ترتجف خائفة هلعة تخشى وقوع نهاية العالم فكانت تصرخ مولولة:
«الآن سيأتي المسيح وينظم الكون بقوة النار» وحج القيصر الشاب «أوتو» الثالث وهو ابن عشرين عامًا تكفيرًا عن خطاياه التي اقترفها واستجابة لأوامر القديس «رومولادوس»، وكان القيصر في حجه عاري القدمين، وقد قطع المسافة بين روما وجبل «جرجانوس».
وفي نفس العام كان الشاب ابن سينا قد بلغ العشرين من عمره، وقد أخذت شهرته تغزو العالم.
إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء ومن العدم من أعجب النهضات العلمية الحقيقية في تاريخ العقل البشري. فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائرًا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة، هذه المعجزة العقلية التي لا نظير لها والتي يحار الإنسان في تعليلها وتكييفها.
إذ كيف كان من المستطاع أن شعبًا لم يسبق له أن يلعب دورًا سياسيًا أو ثقافيًا من قبل يظهر بغتة إلى الوجود ويسمع العالم صوته ويملي عليه إرادته ويفرض عليه تعاليمه، وفي زمن قصير أصبح ندًا لليونان. إن هذه المنزلة التي بلغها العرب أبناء الصحراء لم تبلغها شعوب أخرى كانت أحسن حالا وأرفع مكانة.
إن بيزنطة الوريثة الغنية لا للشرق القديم فحسب بل للثقافة اليونانية أيضًا لم تنتج شيئًا وظلت حتى اليوم عاقرًا. والسريان وهم تلاميذ اليونان الحقيقيون وصلتهم الثقافة اليونانية كما وصلت العرب، فترجم السريان كثيرًا من المؤلفات اليونانية إلى