للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأضاليل من هذه الصفات التي اتصف بها العرب الفاتحون من إنسانية رفيعة وتسامح تضرب به الأمثال، فهذه الإنسانية وذلك التسامح أثبتا للمهزومين كذب هذه الدعاية المغرضة وسوء نوايا مروجيها ضد العرب.

كم هذه الشعوب التي عرفها التاريخ وقفت من المغلوبين المهزومين الذين يدينون بدين أو أكثر يخالف دين المنتصرين موقف العرب المتسم بالإنسانية والتسامح؟ وإذا أضفنا إلى هذا الموقف الكريم الذي وقفه العرب والإسلام من الشعوب التي انضوت تحت رايتهم هذه المثابرة على نشر الثقافة العربية الإسلامية وهي ثقافة تختلف في جوهرها عن هذا الطلاء الهلّيني أو القشور الرومانية ازددنا تقديرًا وإعجابًا بالعرب.

نعم إن الدولة العربية الفسيحة المترامية الأطراف قد تفككت إلى دويلات لكن حتى هذا التفكك كان إعجازًا عربيًا أيضًا. فكل دويلة من هذه الدولة قد نمت حيث قامت رغمًا من اختلاف التربة والبيئة والشعب أو الشعوب من حيث التاريخ والثقافة والعقيدة، كما هو الحال مثلا في إسبانيا ومصر والعراق، فقد نجح العرب في خلق ثقافة متحدة قوية الأواصر وثيقة الوشائج.

إن الشعوب صاحبة الثقافات القديمة قد هرمت وتجمدت مياه الحياة في شرايينها حتى أصبح من الضروري فناؤها. ففي القرنين الثالث والرابع الميلاديين أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة وتتلاشى من على مسرح الحياة تدريجيًا، وإذا أضفنا إلى جميع هذه العوامل موقف الكهنوت المسيحي من الحكمة اليونانية وإصرار هذه المسيحية على القضاء عليها وإعدامها، أدركنا الوضع الذي كانت عليه تلك البلاد أولا ومدى الخطر المحدق بالتراث اليوناني القديم ثانيًا والموت المحقق لهذه العلوم ثالثًا، ولكني كأنني بالعناية الإلهية قد أرادت لهذا التراث الإنساني الحياة فبعثت أبناء الصحراء وقد عمرت قلوبهم بإيمان الإسلام ودعوته الجديدة فسارعوا إلى تلك الحضارات العقلية فأنقذوها مما يتهددها وبعثوها بعثًا جديدًا فتيًا، ولولا هذا الفتح الجديد لظلت الثقافة القديمة دفينة ميتة يخيم عليها سكون القبر ووشحته إلى حين.

<<  <   >  >>