ففي كل جزء من أجزاء الإمبراطورية الرومانية كان يحاول الأمراء الجرمان وفي مقدمتهم «ثيودريش» بعث الروح الوثنية القديمة وإعادتها إلى الحياة، وقد حذا حذوهم فيما بعد الخلفاء العرب حفظًا على نقاوة الجنس العربي. لكن الإمبراطورية الرومانية حولت إلى إمبراطورية مسيحية، فقد أعلن أوجسطين تعيين الرئيس المطلق للقوة الروحية، كما أرسلت روما الكهنوتية توجيهات إلى مختلف الجهات التي سبق لها أن أوفدت مبشريها. ففي بلاد الغال وبريطانيا أخذت الثقافة الهلّينية تختفي بمجرد وصول رسل روما، وتوارت مع الثقافة الهلّينية اللغة اليونانية، وذهبت روما الكهنوتية بعيدًا فعملت جاهدة على القضاء على العناصر الثقافية الهلّينية القديمة وحتى تلك التي تأصلت فيها من قبل. فالقديس «هيرونيموس» اعتبر مجرد التفكير اليوناني لعنة حلت بالإنسانية، كما ترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية ليقضي على الفولجاتا وأمثال هوميروس وفرجيل ويطهر العقول من آثارهما، وهكذا نجد الثقافة المسيحية تتجه اتجاهًا خطيرًا معاديًا للثقافة الهلّينية ومقوضًا لها.
فالعقل البشري ليس هو الذي يضيء السبيل أمام النفس البشرية بل الوحي الإلهي. وكانت العقيدة السائدة في العالم المسيحي أن استخدام القوى العقلية ودراسة الظواهر الطبيعية ومعجزاتها عوضًا عن الانصراف إلى دراسة تعاليم الديانات السماوية مفسدة لهذه القوى العقلية، وذلك لأنه إذا كانت الفرصة مواتية لمعرفة الحقيقة عن طريق هذه الدراسات فلا بد أن توجد، «هكذا نادى المعلم الديني لكتنيوس» لكن لما كان هذا الاستعداد غير موجود فلن يجدي ضياع الزمان والمجهود في سبيل الهداية وبلوغ الحكمة».
وكما أن الإنسان استغل أنفاض المباني القديمة لتشييد الكنائس، كذلك الحال مع بقايا الفلسفة والعلو القديمة، فقد استغلت لخدمة المسيحية وأهدافها، فإلى جانب الصراط المستقيم الذي يبلغ الروح الله وجد طريق ضلال، إذ من الممكن الوصول إلى الحقيقة من غير طريق الوحي، وذلك عن طريق أشياء موجودة في الطبيعة، هكذا أعلن «ترتليان»: «وليست رسالتنا هي البحث عن يسوع المسيح فهذا معناه حب الاستطلاع، وذلك لأن الأناجيل بشرت به».