إن العام الهجري ٥٢٨ يقابل الميلادي ١١٣٣، في عاصمة صقلية: بالرمو، هذه المدينة العظيمة التي أصبحت وكأنها مدينة القصص والخيال، عاصمة لملك اشتهر بإعجابه بعظمة الشرق وأبهته، وهذا هو «روجير» الثاني، وهو ابن فاتح الجزيرة وقاهرها الأمير النورماني «روجير» الأول الذي انتزع هذه الجزيرة من العرب بعد أن حكموها زهاء ثلاثة قرون، ثم نجد أرملته الأميرة «أديلاسيا» هذه السيدة الذكية التي جعلت من بالرمو العاصمة العربية عاصمة للدولة النورمانية، وبذلك وضعت مركز ثقل الدولة الفتية بعيدًا عن المركز الشمالي الواقع حول مسينا، وهو يوناني بيزنطي، بينما بالرمو تقع في المركز العربي والبيئة العربية، وبذلك مكنتها «أديلاسيا» من التوسع والازدهار. وبعد أن تمكن ابنها من ضم جنوب إيطاليا إلى مملكته استطاع مطالبة سيد روما بالتاج.
ولهذا الملك روجير الثاني ملك الصقليتين صنع أحد أفراد رعيته وهو عبد الله الطراز العربي الرمز العظيم للقوة الملكية: الأسدان اللذان يبركان على الجمل في التراب «رنك» البيت المالك النورماني. وإذا سأله سائل: ما الدليل على هذا الطغيان؟ حار جوابًا. . .
فقيل قرنين كان أجداده من جهة القيروان في تونس العاصمة القديمة منذ أيام سيدي عقبة فاتح شمال إفريقيا قد أقلعوا إلى صقلية فأدخلوا فيها النواعير التي جعلت من أرضها الجرداء حدائق غناء، فقد جاءوا ومعهم من وطنهم الأول النخيل والسني، كما غرسوا البرتقال والفستق وشجيرات المر إلى البنان (الموز) والزعفران. لقد أغنى العرب تلك الأراضي الفقيرة بحقول القطن وقصب السكر كما توجوا البلاد بتاج من القلاع الحصينة والقصور الشامخة والمساجد التي تعتبر آية في الفن والجمال. فابن حوقل الجغرافي يحصي بها حوالي عام ٩٧٠ م نحو ثلثمائة مسجد في بالرمو فقط، هذا إلى جانب القصور التي كانت موضوع شعر الشعراء والمغنين. كما كان بها الفلاسفة والأطباء والطبائعيون والرياضيون يتعاونون جميعهم في نشر العلم والثقافة ورفع مستوى الشعب. هنا ألف المؤلفون كتبهم