لحظي بتربية ملكية رقيقة ووقتذاك ما كان لأحد من أعدائه أن يتهمه وهو ابن الثالثة عشرة بأنه سيئ الخلق والسيرة لأنه يكون قد تربي التربية التي تتفق وبيئتهم.
وهل من المستطاع أن يرجو الإنسان شيئاً آخر من شاب هو أقرب إلى الطفولة وانطباعاتها منه إلى الرجولة وجدتها، وبخاصة لم يهتم أحد به منذ طفولته، فكان يتجول طليقاً حراً بدون رقيب في مختلف الحواري والأزقة وأحياء الميناء إشباعاً لرغبته في المعرفة، فذهب إلى المساجد والأسواق وأرصفة الميناء، كما اختلط بشعب بالرمو الخليط، وكان في وحدته القاتلة يصادق الحيوان والطير والإنسان غير مكترث بنوعه أو جنسه أو ثقافته. فالوالد الذي أراد أن يصحبه معه إلى ألمانيا قد توفي، لذلك شب الطفل وترعرع، شب هذا الملك الطفل بين الآثار العربية الإسلامية الجميلة وأحجار الفسيفساء البراقة والقلاع العربية الشامخة المتناهية في العظمة، وهي إن كانت ملكاً للملك روجير فإن العمال والمهندسين المعماريين الذين شيدوها كانوا عرباً جنساً وفناً ومعماراً، كما أن الذين كانوا يقومون على العناية بها عرب. لقد نشأ الملك الشاب في وسط لا تقع عينه فيه إلا على صور عربية وخلق عربي وحياة عربية، إنها بيئة العروبة ولوحتها الخالدة التي لن ينساها من يشاهدها. وقد ظلت هذه الصور ملازمة له بالرغم من السنوات العديدة التي مرت عليها. لقد سمع الملك الطفل أغاني المغنين العرب مختلطة بصوت مياه النافورة بين مقاصيرها الملكية، وحولها الأعمدة وكل هذه الأشياء تتراءى له وكأنها حلم. أما أذان المؤذنين من أعلى المآذن فكان يعين ويحدد له نظام يومه.
وحدث أن أمه «كونستنزا» النورمانية، ابنة الملك روجير الثاني قد فارقت الحياة عقب وفاة زوجها بزمن قصير، وحينذاك بدأ النزاع حول الطفل وقامت المشاكل وتعقدت الأمور. فلسوء إدارة الأوصياء أصاب المزرعة الملكية ما أصاب الدولة، ودب الفقر وساءت الحالة مما اضطر هذا الملك الشاب وهو ما زال في السادسة من عمره، إلى الالتجاء سائلاً مستعطفاً مواطنيه العرب فمدوا له يد المساعدة فكانوا يعولونه ويطعمونه مناوبة، هذا لمدة أسبوع، وذلك لمدة شهر وهلم جراً حتى بلغ الطفل السابعة.