والثلث الثاني كان يحتفظ به كرصيد، والثلث الأخير كان ينفقه الخليفة في تشييد المساجد والقناطر والطرق الحربية وشق الترع، وبذلك كان يخلق عملاً لسائر العمال المتعطلين فخلد وحقق أمانيه وأحلامه كما ذكر هو ذلك. وفي عصره الذهبي قامت مدينة الصخرة، مدينة الأحلام، بالقرب من قرطبة وهي في أبهى حلة لها فقد زخرفت مبانيها وقصورها بالذهب الخالص والرخام والبلور والأبنوس والجواهر الكريمة. كما اشتهرت أيضاً بحدائقها الغناء. ويذكر أن جارية عبد الرحمن المحبوبة تركت عند وفاتها ثروة طائلة ليفتدي ببعضها كثيرون من أسرى المسلمين الذين وقعوا في قبضة الإفرنج. لكن جميع الأبحاث والمفاوضات التي قام بها المسلمون مع الإفرنج باءت بالفشل، لذلك ما كان من عبد الرحمن إلا أنه، تحقيقا لوصية جاريته التي أوقفت ثروتها لافتداء أسرى المسلمين ولم يوفق في هذا التعنت الإفرنج، شيد الصخرة وأطلق عليها اسم جاريته تخليداً لها ولا سيما أنه قد استغل الثروة التي تركتها فيها.
لقد عمل في الصخرة نحو عشرة آلاف عامل وظلوا يعملون بها زهاء خمسة وعشرين عاماً بدون انقطاع فشيدوا آيات العمارة، حتى قال شاهد عيان: لقد رأيت بها أشهر ما شيدته يد إنسان من مبان عظيمة.
وقال عربي آخر إن قصر الخليفة كان على جانب عظيم من الأبهة والجلال حتى قيل إنه الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي. واعترف أكثر من زائر من مختلف أنحاء المعمورة أنهم لم يروا له مثيلاً في العالم كما لم يعرفوا عظمة وأبهة وفخامة كتلك.
وهذه المنشآت العظيمة لم تلبث أن تركت أثراً عظيماً، لا في العاصمة فقط، بل على امتداد شاطئ الوادي الكبير، وحول المساحات الممتدة بين القرى حيث القصور الشامخة والبيوت الخلوية الجميلة لأصحاب الجاه والسلطان والأثرياء، وحيث دور اللهو والمتنزهات، كما قصد سكان المدن تلك الأماكن استظلالاً في غابات الزيتون والكروم والنخيل والسرو.
وفي المنطقة الممتدة بين «سييرا مورينا» و «سييرا نيفادا»