الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتَ القياسِ؛ لقولِهِ:{وَالْمِيزَانَ} لأن الميزانَ ما تُوزَنُ به الأشياءُ ويُقَارَنُ بينها، ففيه إثباتُ القياسِ في الشرائعِ السَّماويَّةِ، وهذه المسألةُ - أعني مسألةَ القياسِ - أَنْكَرَهَا بعضُ العلماءِ، ولا سِيَّما الظاهريَّةُ - عفا اللهُ عنا وعنهم - وإنكارُهُم هو المُنْكَرُ؛ لأنَّ القياسَ جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ، فهنا ذُكِرَ الميزانُ، والميزانُ ما تُوزَنُ به الأشياءَ وهذا لا يكونُ إلا بالقياسِ.
واعلم أن كلَّ مثلٍ ضَرَبَه اللهُ في القرآنِ فإنه مُثْبِتٌ للقياسِ؛ لأنَّ المقصودَ به قياسُ هذه الحالِ على هذه الحالِ، فقوله:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}[يونس: ٢٤]، إلخ. عندنا هنا مُشَبَّهٌ وَمُشَبَّهٌ به، والتشبيهُ يقتضي المماثلةَ وإلحاقَ المُشَبَّهِ بالمشبَّهِ به، وهذا تمامًا هو القياسُ، وهذه خذها قاعدةً: كلُّ مثلٍ في القرآنِ فإنه يتضمَّنُ إثباتَ القياسِ.
وقوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}[يس: ٨١]، هذا فيه قياسُ أولويَّةٍ، ورسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - ذَكَرَ القياسَ في عدةِ أحاديثَ منها أنه شَبَّهَ قضاءَ الحجِّ عن الميِّتِ بقضاءِ الدَّيْنِ، ومنها أن رجلًا جاء إليه وقال: يا رسولَ اللهِ إن امرأتي وَلَدَتْ غلامًا أسودَ وهو والمرأةُ أبيضان فقال له النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ -: "هل لك من إِبِلٍ؟ " قال: نعم قال: "ألوانُها؟ " قال: حُمْرٌ قال: "هل بها من أَوْرَقَ؟ " قال: نعم، قال:"أنى لها ذلك؟ " ما الذي جاء بالأوْرَقِ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، لَعَلَّه نَزَعَه عِرْقٌ قال:"فوَلَدُكَ - أو قال: فابنُك - هذا لعلَّه نَزَعَه عِرْقٌ"(١).
(١) أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، رقم (٥٣٠٥)، ومسلم: كتاب اللعان، رقم (١٥٠٠)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.