للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمفسِّرُ ونحْوُهُ دائمًا إذا أتى بمِثْلِ هذه الآيةِ يقولُ: "هذه منسوخةٌ" وهذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسْخَ ليس بالأمرِ الهَيِّنِ، ادِّعاءُ النَّسْخِ. يعني أنَّ المنسوخَ باطلٌ حكمًا زائلٌ، وهذا صعْبٌ أن تَرْفَعَ حُكْمَ آيةٍ أو حديثٍ لمجرَّدِ وَهْمٍ تَوَهَّمْتَهُ؛ لذلك لا يجوزُ للإنسانِ أن يَسْلُكَ هذا المسْلَكَ المُشِينَ، أنَّه إذا عَجَزَ عن الجمْعِ بين الآياتِ ذهب يقولُ: إنَّها منسوخةٌ.

فالنَّسخُ يحتاجُ إلى العِلْمِ بتأخُّرِ النَّاسِخِ، ويحتاجُ أيضًا إلى تَعَذُّرِ إمكانِ الجمْعِ، فإن أَمْكَنَ الجَمْعُ فلا نَسْخَ.

فإن قال قائلٌ: هل قولُهُ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: ٤٨]، منسوخٌ؟

فالجوابُ: أبدًا؛ إلى آخِرِ رَمَقٍ من حياةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو عليه البلاغِ، فلم يَنْسَخْ، والبلاغُ لا ينافي أن يَكُونَ معه جهادٌ، ولكن من حِكْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أنَّ اللهَ لم يَفْرِضِ الجِهادَ إلَّا حين قَوِيَتِ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ، فلم يَفْرِضِ الجهادَ في مكَّةَ، وإنَّما فَرَضَه في المدينةِ حين صار للأمَّةِ الإسلاميَّةِ دولةٌ مستقلَّةٌ تستطيعُ أن تُجاهِدَ، فهذا من الحِكمةِ، ويعبَّرُ عنه أنَّه من بابِ التدرُّجِ في التَّشريعِ، ومن بابِ الحكمةِ في التَّشريعِ.

إذن نقولُ: إنَّ قوْل المفسِّرِ - عفا اللهُ عنه وغَفَرَ له -: [إنَّ هذا قبل الأمْرِ بالجهادِ] خطأٌ عظيمٌ نقولُ: البلاغُ واجبٌ عليه حتَّى بعد الأمْرِ بالجهادِ، ولا يتنافيان، لا ينافي أن يَكُونَ عليه البلاغُ وأن يَكُونَ مأمورًا بالجهادِ {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}.

قال المفسِّرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} نعمةً؛ كالغنى والصِّحَّةِ {فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ} الضَّميرُ للإنسانِ باعتبارِ الجنْسِ {سَيِّئَةٌ} بلاءٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ أي: قَدَّمُوه، وعبَّرَ بالأيدِي؛ لأنَّ أكْثَرَ الأفعالِ تُزَاوَلُ بها {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} للنِّعْمَةِ].

<<  <   >  >>