للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما يؤكد كلام الإمام الذهبي وغيره في "نهج البلاغة": هذه العبارات التي نقلها صاحب الرسالة منه منسوبة لعلي - رضي الله عنه -، حيث قال: «وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ» (١)، إلى أن قال: «وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي، وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي، وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلى الله عليه وآله وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالْأَفْنِيَةُ، مَلَأٌ يَهْبِطُ وَمَلَأٌ يَعْرُجُ» (٢).

فهل يُعقل أن يصدر مثل هذا الكلام الغالي غير المعقول من سيدنا علي - رضي الله عنه -، وهو العبد التقي النقي الورع الذي حارب الغلاة وحرقهم بالنار، والذي كان يقول - رضي الله عنه -: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (٣)؟

الجواب بالطبع: لا، بل لو حلف المرء بالطلاق -وهو لا يجوز- أو حلف بين الركن والمقام أن عليًا - رضي الله عنه - لم يقله لم يحنث؛ وذلك لما اشتمل عليه من الغلو المفرط الذي خرج عن حد الاعتدال، إذ كيف يصح عنه - رضي الله عنه - أن يدَّعي أن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - سالت في كفه ثم أمرَّها على وجهه والله تعالى قد حدَّثنا عن الروح أنها من أمره، وأنه لا يعرف أحد حقيقتها وكُنهِها إلا هو - جل وعلا -، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)} [الإسراء:٨٥]. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلق على الإطلاق لا يعلم شيئًا عن الروح -وهي: النفس- إلا أنها من أمر الله. فالذي يدعي بعده - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلم منها غير ذلك فهو كاذب، وقد حجب الله عن الإنسان الحي معرفتها ورؤيتها، ولا يراها إلا الميت، وذلك بعد أن تغادر جسده وترتفع إلى السماء، فيتبعها بصره، ولذلك يبقى شاخصًا إليها حتى تُغمض عيناه. أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: (دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ) (٤).


(١) نهج البلاغة، لأبي الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي (ص:٣١١)، رقم (١٩٧).
(٢) نفس المصدر السابق.
(٣) صحيح البخاري معلقًا، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا (١/ ٣٧)، رقم (١٢٧).
(٤) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر (٢/ ٦٣٤)، رقم (٩٢٠).

<<  <   >  >>