فإذا ما أسعف الدهر أحدهم بالوصول إلى الأماكن المقدسة، وشاهد على البعد المدينة المنورة، اتّقد شوقه وزاد وجده، وعلت همّته، وأسرع بالمسير على الرغم من بعد السفر ومبلغ الجهد، وانتابته مشاعر الهيبة والقداسة وشعر كأنه دخل عالما آخر أو تهيأ للدخول.
وقد وصف أحدهم ما حصل حين شارف الحاج المغربي المدينة المنورة، فقال:«لما دخلنا المدينة، ومعنا الوزير أبو عبد الله بن أبي قاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حلّ تلك الديار، فأحس بالشفاء، فقال:
ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا
وبالتّرب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا
وإنّ بقائي دونه لخسارة ... ولو أنّ كفّي تملأ الشّرق والغربا «١»
من كل ذلك يبدو لنا أن فن التشوق للأماكن المقدسة، كان في بداية أمره حنينا من أهل الحجاز إليه، وكان بديلا في القصائد الدينية عن الوقوف على الأطلال، ثم ظهر معبرا عن الشوق والحنين عند الذين لم يستطيعوا أداء فريضة الحج وزيارة تلك المعاهد الطاهرة، ومعبرا عن العشق والوجد عند المتصوفة الذين جعلوا للأماكن المقدسة مكانا هاما في طريقتهم، فانتشر هذا الفن الشعري، واستقل بقصائد خاصة به، ثم أضحى من لوازم المديح النبوي، وأفضل ما يقدم به للمدحة النبوية.
وإذا كان التشوق للمعاهد الحجازية نابعا من قدسيتها، وهذه القداسة تعود فيما تعود، إلى شهودها ولادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثه ودفنه فيها، فإن ذكر الأماكن المقدسة