للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان ينظم الشعر على سجيته، وأنه صاغ قصيدته على الشكل الذي تبادر إلى ذهنه عند ما تداعت إليه المعاني، فلو وصلتنا الصورة الأولى للقصيدة لكانت تختلف اختلافا كبيرا عمّا هي عليه في صورتها التي أذاعها للناس، فهو يريد إرضاء ذوق أهل عصره وإدهاشهم، وإثبات مقدرته البديعية من ناحية، ويريد مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونيل غفران ربه من ناحية ثانية، فجمع بينهما لينال الحسنيين.

وهذا ما كان يدور في أذهان الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأثقلوا مدحه بزخرف القول، من أمثال الشهاب المنصوري الذي قال في إحدى مدائحه للنبي الكريم:

برز الصّباح براية بيضاء ... زحفا فولّى عسكر الظّلماء

ضحكت على نجم السّما نجم الثّرى ... فبكت أسى بمدامع الأنواء

ووشى بسرّ الرّوض نمّام الصّبا ... وغدا يطوف به على الأحياء

والرّيح في فرش الرياض عليلة ... ترجوا الشّفاء برقية الورقاء

والماء فيه تملّق وتدفّق ... يلقى النّسيم برقّة وصفاء «١»

فمنذ مطلع القصيدة أخذ يحشد المحسنات البديعية حشدا، فجعل تعاقب الليل والنهار حربا بين جيشين، ولتتم المفارقة له، طابق بين زحف وولى، وبين البيضاء والظلماء، وحين أراد تعليل سبب المطر في البيت الثاني، جعل النبات يضحك من نجوم السماء، فبكت النجوم بالأمطار، وهو يظن أنه أجاد حسن التعليل، وهو أحد فنون البديع.

واستغرق في صنعته، فخلق عالما عاقلا شاعرا من عناصر الطبيعة، وأضفى عليها الوعي الإنساني، فالليل والنهار جيشان يتقاتلان، والنبات يضحك، والنجوم تبكي،


(١) المجموعة النبهانية ١/ ١٦٩.

<<  <   >  >>