للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما نسيم الصبا فهو واش نمّام، يذيع سر الروض عند ما يحمل رائحته، والماء متملق في لقائه مع النسيم، فعناصر الطبيعة كلها تشعر وتعقل، وكلها لها علاقات إنسانية فيما بينها، والصنعة البديعية تلون ذلك كله بألوان فاقعة، هي غير ألوان الطبيعة الحقيقة.

صحيح أن إضفاء المشاعر البشرية على عناصر الطبيعة و (أنسنتها) من أرقى طرق التعبير الأدبي، وهذا ما يحمد للشاعر، ولكن طريقة أداء ذلك أفسدته فنون البديع أو كادت.

فالصنعة لا تفارقه حين ينظم شعره، وهذا ديدنه وديدن كثير من شعراء عصره، يرون الصنعة البديعية الفن الذي ما بعده فن، وهذا ما يظهر عند ابن الموصلي في مدحة نبوية، يبدي فيها ولعه بالجناس وبأنواعه المختلفة، فهو يقول:

يمناه ما صفحت لسائل منحا ... وكم عن المذنب الخطّاء قد صفحت

فكم فدت وودت وأوجلت وجلت ... وأوكست وكست وأثبتت ومحت

ودارسا عمّرت وعامرا درّست ... ويابسا رحمت وفارسا رمحت

وكم شفت عللا وكم روت غللا ... وكم هدت سبلا لولاه ما فتحت «١»

فتكلف الجناس ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فهو لم يترك بيتا لم يجانس فيه بطريقة أو بأخرى، وأتبع الجناس الطباق، فأكثر منه، وقد حاف على المعنى في سبيل جناسه وطباقه، وجانب الدقة في إيراد الألفاظ ليقيم جناسه، مثلما فعل ابن مليك الحموي حين استخدم الأسماء في التعبير عن مشاعره بتكلف وتصنع ثقيلين في قوله:

سفحت عقيق الدّمع من سفح مقلتي ... وبتّ لدى الجرعاء أجرع عبرتي


(١) الصفدي: الوافي بالوفيات ١/ ٢٦٦.

<<  <   >  >>