للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من خلاف ذلك! ولعمري لو أشبه عمل امرىء يقينه فكان في خوفه ورجائه كالمعاين لما يعاينه بقلبه من الوقوف بين يدي الله والنظر إلى ما وعد وأوعد، لكان ما يعتلج على قلبه من خطرات الخوف شاغلا له عن الرجاء، حتى يأتي على نفسه أوّل لحظة ينظر بها إلى النار خوفا لها أو إلى الجنة أسفا عليها إذا حرمها، وإذا لكان الموقن بالبعث بقلبه كالمعاين له يوم القيامة. وكيف يستطيع من كان كذلك أن يعقل فضلا عن أن يعمل؟ وأما قولك: «كيف لم يكن خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه؟» ، فإن الله عزّ وجلّ خلق الإنسان ضعيفا وجعله عجولا، فهو لضعفه موكّل بخوف الأقرب فالأقرب مما يكره، وهو بعجلته موكل بحبّ الأعجل فالأعجل مما يشتهي؛ وزاده حرصا على المخلص من المكروه وطلبا للمحبوب حاجته إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طبع عليه القلب من حبّه وسهل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا منتفع ولا عاش فيها عائش. ومع ذلك إنّ مكاره الدنيا ومحابّها عند ابن آدم على وجهين، إما المكروه فيقول فيه: عسى أن أكون ابتليت به لذنب سلف منّي، وإما المحبوب فيقول فيه: عسى أن أكون رزقته بحسنة كانت مني فهو ثواب عجّل؛ وهو مع هذا يعلم أن حلوم المخلوقين إلى الضّيق، وأن قلوب أكثر مسلّطيهم إلى القسوة، وأن العيب عنهم مستور، فليس يلتمس ملتمسهم إلا علم الظاهر ولا يضع إلا به، ولا يلتفت من امرىء إلى صلاح سريرته دون صلاح علانيته. ومن طباع الإنسان اللؤم، فليس يرضى إذا خيف إلا بأن يذلّ، ولا إذا رجي إلا بأن يتعب، ولا إذا غضب إلا بأن يخضع له، ولا إذا أمر إلا بأن ينفّذ أمره، ولا ينتفع المتشفع بإحسانه عنده إذا أساء ولا المطيع بكثرة طاعته في المعصية الواحدة إذا عصى، ولا يرى الثواب لازما له ولا العقاب محجورا عليه، فإن عاقب لم يستبق، وإن غضب

<<  <  ج: ص:  >  >>