للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا. ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. ألا إنّ لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلّدين وأهل النار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة لعقبى راحة طويلة؛ أمّا بالليل فصافّو أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله: ربّنا ربّنا يطلبون فكاك رقابهم؛ وأما بالنهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنّهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: خولطوا، ولقد خالط القوم أمر عظيم.

حدّثنا إسحاق المعروف بابن راهوية أنّ عون بن عبد الله بن عتبة كان يقول: يا بنيّ ممّن نأى به عمّن نأى عنه يقين ونزاهة، ودنا به ممن دنا منه لين رحمة، ليس نأيه تكبرا ولا عظمة، ولا دنوّة بخدع ولا خلابة، يقتدي بمن قبله، وهو إمام من بعده، لا يعجل فيمن رابه «١» ويعفو إذا تبين له، ينقص في الذي له ويزيد في الذي عليه، لا يعزب حلمه ولا يحضر جهله، الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون، إن رجي خاف ما يقولون واستغفر لما لا يعلمون، إن عصته نفسه فيما كرهت لم يطعها فيما أحبت، يصمت ليسلم ويخلو ليغنم وينطق ليفهم ويخالط ليعلم. ولا تكن يا بنيّ ممن يعجب باليقين من نفسه فيما ذهب وينسى اليقين فيما رجا وطلب، يقول فيما ذهب: لو قدّر شيء كان، ويقول فيما بقي: ابتغ أيها الإنسان؛ تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها

<<  <  ج: ص:  >  >>