[موقف الناس من إثبات صفة الحكمة]
انقسم الناس في الحكمة إلى قسمين: القسم الأول: نفاة الحكمة، والقسم الثاني: مثبتو الحكمة، والحكمة والتعليل بمعنى واحد.
فنفاة الحكمة وهم الأشاعرة يقولون: إن الله عز وجل لا يفعل الفعل لحكمة، وإنما يفعله لمحض المشيئة والإرادة، فإذا قال لهم أحد: إن الحكم واضحة في مخلوقات الله عز وجل.
قالوا: هذه الحكم ليست قبل الفعل، وإنما هي بعد الفعل، وثمرة من ثمرات هذا الفعل، وأما الفعل فإن منشأه الأساسي محض المشيئة والإرادة وليس لحكمة أو غاية قبل الفعل.
أما مثبتو الحكمة فهم طائفتان: الطائفة الأولى: المعتزلة: فقد أثبتوا الحكمة، وقالوا: إن الله عز وجل خلق الخلق لحكمة، لكن قالوا: إن هذه الحكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الله عز وجل بوجه من الوجوه.
وقالوا كذلك: إن هذه الحكمة التي نعلمها بعقولنا واجبة على الله عز وجل، وهذا أصل عندهم يسمونه: إيجاب الأصلح على الله سبحانه وتعالى؛ فإنهم يرون أنه إذا كان الأصلح لهذا العبد أن يوفق لعمل من الأعمال، فيجب على الله أن يفعل هذا العمل.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولهذا يسميهم السلف الصالح: معطلة الصفات مشبهة الأفعال؛ لأنهم شبهوا الله عز وجل بخلقه في الأفعال.
الشاهد: أنهم حين أثبتوا الحكمة قالوا: إن هذه الحكمة ليست راجعة إلى الله، وإنما هي راجعة إلى العبد، يعني: هذه المصلحة والغاية راجعة إلى العبد وليست راجعة إلى الله سبحانه وتعالى.
والسبب في ذلك: أنهم ينفون الصفات، ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى ليست له صفات، ويثبتون الأسماء على أنها أعلاماً محضة فقط، ولا تتضمن شيئاً من الصفات، وحتى العلم ينفونه، ويقولون: عالم بلا علم، فإذا قيل لهم: هل هو جاهل؟ قالوا: لا، علمه هو ذاته علمه هو ذاته.
هكذا يقولون ويسفسطون.
وأما السلف الصالح رضوان الله عليهم فإنهم أثبتوا الحكمة، وقالوا: إن الله عز وجل يفعل الفعل لحكمة عظيمة، وهذه الحكمة التي خلق الخلق من أجلها، أو أمر بالشرع من أجلها تعود إليه؛ فهو يحبها سبحانه وتعالى ويرضاها، وتعود إلى العباد من ناحية أنهم يفرحون بها، ويلتذون بها، وتطمئن نفوسهم إليها.
والسبب الذي جعل الأشاعرة ينفون حكمة الله عز وجل أنهم قالوا: إن حكمة الله عز وجل لو أثبتناها للزم من ذلك أن الله عز وجل يفعل لغاية، قلنا: وما الذي يضر في هذا؟ إذا كان يفعل لغاية فهذا من الكمال، قالوا: لا، معنى هذا أن الله محتاج لهذه الغاية.
ونحن نقول لهم: لا يلزم أن الله عز وجل محتاج لهذه الغاية التي خلق الخلق لأجلها؛ لأنه خلق مخلوقات كثيرة وهو غير محتاج إليها.
ثم إنكم أردتم الفرار وخفتم من إلصاق النقص بالله عز وجل بفهمكم السيئ فألصقتم به النقص بأوضح ما يكون؛ حيث قلتم: إنه يعمل لغير حكمة.
ولهذا وصل الأمر بالأشاعرة أنهم قالوا: إن الله عز وجل قد يدخل الصالحين النار، ويدخل الكفار الجنة، وأن هذا تحت مشيئة الله عز وجل، لو شاء لأدخل الصالحين النار، وأن هذا من إثبات قدرة الله.
ونحن نقول: نعم، الله عز وجل قدير، لكن قدرته مرتبطة أيضاً بحكمته فهو قدير حكيم، وليس كل فعل يقدر عليه الرب سبحانه وتعالى لابد بالضرورة أن يفعله.
أضرب لكم مثالاً في المخلوقات: أنت الآن إنسان عندك قدرة محدودة، تستطيع أن تنزع ثيابك وتمشي أمام الناس عريان، وهذا الأمر سهل وضمن قدرتك، لكن هل تستطيع أن تفعل؟ لا.
لم؟ لأنه يوجد شيء آخر يمنعك من ذلك.
والله عز وجل -وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى- قدير وقدرته عامة لكل شيء، لكنه يفعل الفعل لحكمة سبحانه وتعالى لا كما يظن هؤلاء أنه لا يفعل لحكمة، وإنما هو بصرف الإرادة كما يظنون ويزعمون.
بقي أن الأشاعرة الذين نفوا صفة الحكمة لله عز وجل نفوها في كتبهم المتعلقة بعلم الكلام، فلما جاءوا إلى كتبهم المتعلقة بأصول الفقه وبالأحكام وبالفقه ونحو ذلك تورطوا؛ لأنهم يثبتون القياس، فنجد عدداً كبيراً من الأشاعرة يثبتون القياس، مثلاً الفخر الرازي له كتاب اسمه: (نهاية العقول)، وله أيضاً: (معالم أصول الدين)، و (الأربعين في أصول الدين)، و (المطالب العالية)، وغيرها من الكتب الكلامية، يقرر فيها ما يقرره أصحابه من نفي الحكمة، لكن له كتب في أصول الفقه مثل (المحصول)، وهكذا الغزالي له (المستصفى)، و (الاقتصاد في الاعتقاد)، ولهم كتب في علم الكلام، ولهم كتب أيضاً في علم أصول الفقه، فلما جاءوا إلى أصول الفقه وأرادوا أن يقرروا الأدلة الشرعية بدءوا يحددونها أولاً: القرآن، وثانياً السنة، وثالثاً الإجماع، ورابعاً القياس، ولما عرفوا القياس قالوا: هو قياس فرع غير محكوم فيه على أصل محكوم فيه لعلة.
قلنا: أنتم تنفون العلة في أمر الله وخلقه فكيف تثبتونها هنا؟ فتورطوا.
ولهذا أراد بعضهم الإجابة عن هذه المسألة فقال: إن العلة المقصودة في القياس هي علة معرفة وليست علة باعثة، فرد عليهم بأن الغزالي في (المستصفى) يقول: إن العلة في الأصول هي الباعثة على الحكم، فبعضهم أراد أن يخرج، قال: هذه العلة التي حصلت بعد ال