[نفاة صفة الاستواء والرد على شبهات استدلالهم]
وكان السلف رضوان الله عليهم مجمعين على معاني صفات الله عز وجل لا يختلفون فيها، حتى ظهر الجعد بن درهم فنفى صفات الله سبحانه وتعالى، وأظهر القول بنفي الصفات، فنفى استواء الله سبحانه وتعالى، ثم جاء الجهم بن صفوان بعده فقلده في ذلك ونفى استواء الله عز وجل، ثم جاءت المعتزلة بعد ذلك وقلدوا الجهمية في هذا وقالوا: إن الاستواء ليس من صفات الله وإنما هو بمعنى: استولى، وفسروا الاستواء بالقدرة.
ولما أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن كان مما نفاه المعتزلة هذه الصفة وهي صفة الاستواء، ونفوا كذلك صفة علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، فرد عليهم إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) وكذلك رد عليهم جماعات، ومنهم: عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، وهذا هو مؤسس الكلابية، وقلده في ذلك أبو الحسن الأشعري وتابعه أوائل الأشاعرة، وأيضاً أثبتها أبو بكر بن الطيب الباقلاني وكذلك عدد من الأشاعرة المتقدمين أثبتوا صفة الاستواء لله عز وجل، وصفة العلو لله سبحانه وتعالى، ومن أوائل من نفى صفتي الاستواء والعلو من الأشاعرة هو إمام الحرمين الجويني؛ فإنه نفى صفة الاستواء ونفى صفة العلو، وأخذ تأويل المعتزلة والجهمية أن الاستواء بمعنى القدرة والاستيلاء، ولا شك أن هذا التأويل باطل؛ لأنه لا يوجد في لغة العرب استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء.
وقد نقل أبو المظفر السمعاني في كتابه (الإفصاح) عن الخليل بن أحمد الإمام اللغوي شيخ سيبويه أنه لا يوجد في كلام العرب استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء والقدرة، وإنما جاء بها هؤلاء المحرفون لنصوص الكتاب والسنة، الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وقالوا: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء.
وقد رد عليهم السلف بردود لطيفة جداً، ومن ذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل مستولٍ على كل شيء، فالله عز وجل مستولٍ على الأرض، وهو سبحانه وتعالى مستولٍ على الإنسان، وهو سبحانه وتعالى مستولٍ على الجماد، وهو سبحانه وتعالى مستولٍ على جميع مخلوقاته، فلو كان معنى الاستواء الاستيلاء لصح أن يكون الله عز وجل مستوياً على الأرض أو مستوياً على العباد أو مستوياً على البحار أو مستوياً على الأنهار والأشجار، وهذا لا يقول به أحد، ولو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء لما كان للعرش خصوصية، ولما خصص العرش دون سائر المخلوقات بالاستواء، وهم لا يقولون: إن الله عز وجل استوى على الإنسان مثلاً، ولا يقولون: إن الله عز وجل استوى على البحار والأنهار والأشجار، لا يقولون بهذا، ولا يقول به عاقل، وإنما أرادوا الهروب من هذه الآية، ففسروها بمعنى باطل، فوقعوا في الغلط وفي الخطأ الشنيع.
والعجيب أن الأشاعرة والمعتزلة الذين سبق أن تحدثنا عنهم، وأنهم يقدمون العقل على النقل، ويضعفون الأدلة النقلية الشرعية ويقولون: إنها لا تفيد اليقين، ولا يقبلون أخبار الآحاد في العقيدة، لكنهم عندما قيل لهم: ما هو الدليل على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء؟ قالوا: يقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فلما سئلوا من القائل؟ فإذا هو الأخطل النصراني، وهو شاعر نصراني متأخر قال هذا البيت، فاستدلوا به على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء.
فنقول لمثل هؤلاء: كيف تتركون نصوص الكتاب والسنة وتقدمون العقل عليها، وتهونون الأدلة من القرآن والسنة، ولا تقبلون أخبار الآحاد في العقيدة، ثم تستدلون ببيت شاعر نصراني؟! ثم إن هذا البيت يحتاج إلى التثبت من صحته، فإذا كانت النصوص الشرعية مثل السنة غير المتواترة تحتاج للتصديق بها والعمل بها أن نعرف النقل، وهل ثبت هذا الحديث أم لم يثبت، إذا كان هذا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بمثل هذا البيت الذي قاله رجل نصراني لا يحتج به؟ فيقال لهم: من قال هذا البيت؟ فإن هناك أبياتاً كثيرة منحولة مكذوبة ليست ثابتة عن أصحابها، فمع كون القائل نصرانياً، هل يثبت هذا البيت؟! فلم يستطيعوا إثباته.
وهكذا تكون البدعة والعياذ بالله! وهكذا يكون الهوى، فإن الإنسان إذا استشرب قلبه الهوى -والعياذ بالله- أصبح يبحث عن الحجج بأي أسلوب، ويحاول أن يدفع النصوص بالراحتين والصدر، وأن يبعدها عن دلالاتها.
ومن أدلة هؤلاء أنهم قالوا: لو أن الله عز وجل استوى على عرشه فمعنى هذا أنه جسم، فهل تقولون: إن الله جسم؟ هكذا يخاطبون أهل السنة، فبماذا نجيبهم؟ نجيبهم بما يلي: أولاً: نقول كلمة (جسم) لها معنى بلغة العرب، ولها معنى خاص عندكم، فأما معناها في لغة العرب فالجسم هو: الجسد المبني، وهو هذا البدن الموجود، فإن قصدتم بالجسم المعنى اللغوي فلا شك أن الله عز وجل ليس بجسم؛ لأن فيه تمثيلاً بخلقه، والله عز وجل قد بين في القرآن أن معنى الجسم هو البدن، فقال الله عز وجل عن طالوت: {وَزَادَهُ بَسْط