[مخالفة الفرق المنحرفة لأهل السنة في مصدر تلقي العقيدة]
ولهذا نجد أن الطوائف والفرق الضالة كان من أعظم الأسباب التي جعلتها تخالف الصراط المستقيم، والمنهج القويم، هو مخالفة أهل السنة في المصدر، فنجد مثلاً: أن أهل الكلام يعتقدون أن العقل مصدراً من مصادر تلقي العقيدة، ونجد أن الصوفية يعتبرون الكشف مصدراً من مصادر تلقي العقيدة، ونجد أن بعض المقلدين يعتبرون أئمتهم مصدراً لتلقي العقائد، وكل هذه المصادر باطلة، وإنما المصدر الذي تؤخذ منه العقائد هو القرآن والسنة، ولهذا وقعت كثير من الفرق الضالة في الانحراف بهذا السبب.
نجد أيضاً أن المعتزلة والأشاعرة عندما أرادوا تقرير العقائد جعلوا المصدر الأساسي في تقريرها العقل، فما لا يدل العقل عليه لا يقبلونه، وبدأوا في ذلك من أساسيات الاعتقاد وهو وجود الله عز وجل، حيث أنهم خاصموا أصحاب الأديان الأخرى -لا سيما الملاحدة- فوجدوا أن الملاحدة لا يعترفون بالنصوص، لذا فهم عندما يناقشونهم لا يقولون لهم: قال الله قال رسول الله؛ لأنهم أصلاً لا يؤمنون بالله من حيث المبدأ، ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأرادوا مناقشة هؤلاء الملاحدة بنفس المنهج الذي ارتضوه وهو المنهج العقلي، فلما ناقشوهم به عظموا العقل تعظيماً كبيراً، فأصبحوا يفرضون على كل مسلم الاستدلال العقلي، ولهذا تجدون في كتب الأشاعرة أن من أوليات العقائد التي يبدأون بها: أن إثبات وجود الله عز وجل ووحدانيته لا بد لها من النظر، يعني: يوجبون النظر على الإنسان، وبعضهم يربطه بالبلوغ مثل الأشاعرة، وبعضهم يربطه بالتمييز مثل المعتزلة، فيرون أن النظر العقلي لإثبات وجود الله عز وجل، وإثبات وحدانية الله عز وجل، وإثبات أسمائه وصفاته هو العقل فقط، ولهذا يوجبون النظر على الناس، وقد جعلوا هذا الوجوب عاماً على كل مسلم ومسلمة يبلغ حد التمييز عند المعتزلة، أو حد البلوغ عند الأشاعرة، يلزمونه بالنظر في مخلوقات الله عز وجل وآلائه للتوصل إلى وجود الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة أخطئوا في أمرين: الأمر الأول: أنهم عندما ناظروا وناقشوا الملاحدة من أصحاب الأديان الأخرى بدون رجوع إلى النصوص الشرعية، فقد أحدثوا أدلة عقلية جاءوا بها من عندهم لإقناع هؤلاء الملاحدة لإثبات وجود الله عز وجل ووحدانيته، وكان الواجب عليهم أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة فيعرفوا ما تضمناه من الأدلة العقلية، فالقرآن والسنة ممتلآن بالأدلة العقلية التي تكفي كل أحد يريد أن يصل إلى الحق، وبالأدلة العقلية الكافية في إثبات وجود الله ووحدانيته عز وجل، وإثبات المعاد، والنبوات، وكل العقائد.
ومثال ذلك: إثبات أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، مع أنه فطرة موجودة عند كل أحد -كما سيأتي معنا في الجانب الثاني الذي أخطأ فيه هؤلاء- يمكن الاستدلال العقلي عليه من خلال القرآن والسنة، يقول الله عز وجل: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩]، هذه الآية فيها دليل عقلي لإثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده لا شريك له، وكذلك من الأدلة العقلية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، وهذا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نص عقلي في إثبات أن الله وحده هو الخالق، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] حصر عقلي.
والإنسان والمخلوقات الموجودة له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون خلق من غير شيء.
وهذا يرده العقل بالبداهة؛ لأنه لا يمكن لهذا النظام الدقيق، وهذه العناية العجيبة، وهذا الوضع المتناسق المرتب أن يأتي هكذا.
الحالة الثانية: أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم، وقد دل العقل على أنهم لم يخلقوا أنفسهم، وهم يعرفون ذلك؛ لأننا قبل مائة سنة لم نكن شيئاً مذكوراً، ثم كنا، ونحن نعرف أننا لم نوجد أنفسنا في هذه الدنيا، ولا أنفسنا أوجدتنا، وإنما أوجدنا الله عز وجل.
فلما أبطلت المقدمتان العقليتان ثبت أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، وهو غير المخلوقات الموجودة.
وهكذا إذا جئتم إلى البعث والمعاد تجدون أدلة عقلية واضحة في أن الله عز وجل قادر على أن يحيي العظام وهي رميم، فعندما احتج ذلك المشرك على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ العظم وفته بيده وقال: (يا محمد! هل ترى أن الله يحيي هذه العظام بعد أن صارت رميماً؟ قال: نعم، ويدخلك النار)، فأنزل الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] يعني: نسي خلقه أول مرة، فإنه خلقه وأنشأه وطوره، وجعل النطفة تستحيل إلى علقة، ثم تستحيل إلى مضغة، ثم تتغير هذه المضغة لتكون عظاماً، ثم يكسو هذه العظام لحماً، ثم يشق بصره، وينشئ عقله، سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكون هذا كله حصل بدون وجود خالق، وبالتالي فإن الذي خلقه أول مرة قادر على إحيائه المرة الثانية.
إذاً: هذا دليل عقلي مأخوذ من القرآن الكريم على إثبات