للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يبكيه أهله به، وذلك أَنَّ الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه به.

وهذا مذهب الإسماعيلي، وابن حزم.

قال الإسماعيلي (١): "كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلٌ مجتهداً على حسب ما قُدِّرَ له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بَكَتْهُ باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر: أَنَّ الميت يُعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به؛ لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكِر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها". اهـ (٢)

وقال ابن حزم: "هذا الخبر بتمامه (٣) يُبين معنى ما وهل فيه كثير من الناس من قوله عليه السلام: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، ولاح بهذا أَنَّ هذا البكاء الذي يعذب به الميت ليس هو الذي لا يعذب به من دمع العين، وحزن القلب، فصح أنه البكاء باللسان، إذ يُعذبونه برياسته التي جار فيها فعُذِّب عليها، وشجاعته التي يُعذب عليها، إذ صرفها في غير طاعة الله تعالى، وبجوده الذي أخذ ما جاد به من غير حله، ووضعه في غير حقه فأهله يبكونه بهذه المفاخر، وهو يعذب بها بعينها، وهو ظاهر الحديث لمن لم يتكلف في ظاهر الخبر ما ليس فيه، وبالله تعالى التوفيق". اهـ (٤)


(١) هو: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الجرجاني، أبو بكر الإسماعيلي، الشافعي، إمام في الفقه والحديث، من مؤلفاته (المسند المستخرج على الصحيح)، أي صحيح الإمام البخاري، و (المعجم) وغيرها، (ت: ٣٧١ هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (١٦/ ٢٩٢).
(٢) نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٣/ ١٨٤). وانظر: نيل الأوطار، للشوكاني (٤/ ١٢٧).
(٣) الخبر الذي أورده ابن حزم هو: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فَقَالَ: "أَلَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (١٣٠٤)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (٩٢٤).
(٤) المحلى، لابن حزم (٣/ ٣٧٤).

<<  <   >  >>