ويعطي الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر إذ كان قد ألف مزاجه سفراً وحضراً ورأى الأطباء قصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلّت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس غلبة عظيمة ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. ولقد جلسنا في سادس مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماءً فاتراً ليشرب عقيب شرب دواء لتليين الطبيعة فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حرارته وعرض عليه ماء ثان فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله ألا يمكن أحداً تعديل الماء. فخرجت أنا والقاضي الفاضل من عنده وقد اشتد بنا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أن هذا بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه.
ولما كان التاسع حدثت عليه غشية وامتنع من تناول المشروب فاشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا الأقمشة من الأسواق وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد في كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثلثه أو قريب منه ثم نحضر في باب الدار فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا وإلا عرفونا أحواله من وكنا نجد الناس يترقبون خروجنا إلى أن يلاقونا حتى يعرفوا أحواله من صفحات وجوهنا.
ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن راحة وحصل بعض خفة وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع ثم أتينا إلى الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً فالتمسنا منه تعريف الحال المستجد