ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى أخيه العادل ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أوّلاً، وأخذ الملوك وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به فيحرم عقبه ذلك.
ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان فاجتمعت السودان فهم حفاظ القصر في عدد كثير وكان بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين انهزم فيها السودان وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأخلاهم قتلاً وتهجيجاً وتهيجاً وحكم صلاح الدين على القصر وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي وكان خصياً أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة فيها سارت الإفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة إقامة الإفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مرة ثم رحل عنه. وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام فقام نور الدين في عمارة الأسوار وحفظ البلاد أتم قيام وكذلك خرجت بلاد الإفرنج فخافوا من نور الدين واشتغل كل منهم عن قصد الآخر بعمارة ما خرب من بلاده.
وفيها في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل وكان مرضه حمّى حادّة. ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود إلى أخيه الذي هو أصغر منه وهو سيف الدين غازي بن مودود، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به. وتوفي قطب الدين وعمره أربعون سنة تقريباً وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً وكان من أحسن الملوك سيرة.