للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتبين من سياق الآيات في الوجوه السابقة قسوة في قلوبهم, وتماديهم في عصيانهم لأوامر ربهم, ونقضهم لعهودهم ومواثيقهم, فكان هذا الخطاب من الله للمؤمنين, أي: ماذا تنتظرون أيها المؤمنون من قلوب أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة؟ وماذا تنتظرون ممن قاموا بالاعتداء على كتابهم فحرفوه؟ وكيف تطمعون أن يؤمنوا بكتابكم؟ وهذه الآية فيها دلالة واضحة على عنصرية اليهود وتعاليهم على غيرهم, وهذا ما جعلهم يدَّعون أنهم أحب الخلق إلى الله, وأنهم أحق الناس بالرسالة من غيرهم, فحرفوا الآيات التي تبشر بمجيء رسول عربي, ويزعمون أنهم شعب الله المختار (المقدس) الذي اختاره الله ليسكن الأرض المقدسة, وأن الرب منحهم أرضاً خاصة بهم تسمى (أرض الميعاد جبل صهيون) , ولأجل ذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ليوافق أهواءهم, وزادوا فيه ما ليس منه, قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (١).

وهذه الآية فيها دلالة واضحة أيضاً على أنه ليس كل أهل الكتاب قاموا بالتحريف, بل الذي قام به فريق منهم, وأن هذا الوصف بالتحريف إنما يخص علماء أهل الكتاب من الأحبار والرهبان, ومن وافقهم من العوام على ضلالهم من بعد ما تبين لهم الحق, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .. } (٢).

فكان هؤلاء الأحبار والرهبان هم من صدَّوا الناس عن سبيل الله, وهم من حرفوا الكتب, فأحلوا فيها الحرام, وحرموا فيها الحلال, واشتروا بآيات الله ثمناً قليلا, وأكلوا أموال الناس بالباطل, وألبسوا عليهم الحق بالباطل, وكتموا ما أنزل الله, وأخفوا أحكامه وشرائعه, والآية السابقة تدل أيضاً على وقوع التحريف من أسلافهم قديماً في عهد موسى - عليه السلام - , ولمَّا جاء المتأخرون منهم في عهد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أيضاً حرفوا بعض الآيات والأحكام, وهم كذلك إلى اليوم يحرفون كلام الله كما هو دأبهم في كل زمان.


(١) سورة آل عمران الآية: (٧٨).
(٢) سورة التوبة الآية: (٣٤).

<<  <   >  >>