للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يرد في القرآن الكريم نص يدل على موت عيسى - عليه السلام - الموتة النهائية، وإنَّما الذي ورد لفظ الوفاة والتوفي في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} آل عمران: ٥٥، وهذه ألفاظ لا ينحصر معناها في الموت، بل تحتمل معاني أخرى، ومن هذه المعاني:

أولاً: أن المراد بذلك وفاة الموت لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة، ولأن ذلك قد تكرر قي القرآن بهذا المعنى (١) وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير.

القول الثاني: معناه القبض، نقل ذلك ابن جرير في تفسيره (٢) عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضاتهما من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حي ورافعك إليّ. ومن هذا المعنى قول العرب: توفيت مالي من فلان أي قبضته كله وافياً.

القول الثالث: أن المراد بذلك وفاة النوم، لأن النوم يسمى وفاة، وقد دلت الأدلة على عدم موته - عليه السلام -، فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعاً بين الأدلة، ولأن النوم يصدق عليه أنه وفاة أي شبيه بها كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ...} الزمر: ٤٢، أي يتوفى الأحياء في المنام بحيث تفارقهم أرواحهم فراقاً خاصاً يفقدون فيه الإحساس والصوت والحركة الاختيارية ثم تعود إليهم أرواحهم عند اليقظة، وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند القيام من النوم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) (٣). فعلى هذا يكون المعنى: إني متوفيك وفاة نوم بحيث لا


(١) قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} السجدة: ١١، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الأنفال: ٥٠، وغيرها من الكتب.
(٢) تفسير الطبري (٣/ ٢٨٩).
(٣) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها برقم (٧٣٩٤) عن حذيفة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (٢٧١١) عن البراء - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>