للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

السحاب سببًا في انحطاط المستوى العقلي فيما يتصل بالعلوم المتعلقة بالأرض وكل ما هو أرضي. فبعد أن كان العقل البشري يعيش في الكلمة «اللوجوس» اليونانية الواضحة الوضاءة انحط العقل إلى جو ملبد بالغيوم والضباب وعدد لا يحصى من الخرافات والشعوذة وقد أعمت هذه الخرافات أبصارنا فغطت عيوننا غشاوة حجبت عنا إدراك كنه الوجود. وقد استولى هذا الوضع الجديد لا على تفكيرنا الداخلي الباطني فقط بل أهمل إهمالا كليًا العناية العقلية بالسواد الأعظم للبشرية، فقد اكتفى ذلك العصر وتلك الحالة بالسياحة في مجالات الخيال المستمدة من اللاتينية البربرية المأخوذة عن القصص اليوناني والأساطير الشرقية القديمة المتصلة بأخبار القديسين وسيرهم، وبهذا قويت العقيدة والإيمان بالخوارق على حساب التفكير العقلي السليم.

إن الكنيسة والرهبنة تؤثران في المجال الروحي، ولكن فيما يتصل بالمجال الدنيوي لم تنقذا الثقافة بل غالبًا ما عطلتاها وعوقتاها. لقد كانت لدى الكنيسة والرهبنة نفس الوسائل، بل أفضل من تلك التي كانت لدى العرب فقد كان تحت تصرفهما هذا التراث العظيم فلو استغلتاه وطورتاه لعاد عليهما وعلى الإنسانية بالنفع العظيم. فالنصوص والكتب القديمة متوفرة بكثرة هائلة بخلاف الحال عند العرب، فحتى القرن السادس الميلادي كان في أوربا عدد كاف من الرجال الذين كانوا يجيدون اليونانية، فالعلوم العقلية التي وجدت طريقها إلى أوربا في القرون الأولى عن المثقفين الرومانيين كانت جديرة بالترجمة والتحقيق، وكان في أوربا من يقدر على النهوض بهذه الرسالة، ولم يكن هؤلاء المترجمون أقل من أولئك الذين نهضوا بهذا العبء إبان خلافة بغداد أو دونهم.

لكن العقلية اليونانية كانت غريبة على عقليتهم، ليس بسبب جهلهم الأشياء التي هي ذات فائدة لهم؛ فقد أخذ أسقف قيصرية حوالي عام ٣٠٠ م مدرس الدين «أويزبيوس» والعلماء الطبائعيين من الإسكندرية وبرجامون الذين أضاعوا وقتهم سدى، وهو لا يرى قيمة لمجهودهم، لذلك يدعو إلى التوجيه لما هو أهم وأنفع؛ وهذه الفكرة هي بعينها التي نجدها في القرن الثالث شعر ونادى بها

<<  <   >  >>