للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وتاريخ حنين يبدو كأنه مثال يحتذى، إنه تاريخ وإن كان في الواقع تاريخ إذلال وانتقام، إذلال من جهة الاستعلاء الفارسي على الشعب العربي المنتصر، وهذا الاستعلاء وذلك الإذلال أصابا حنينًا سليل قبيلة العبادي، وهذه المعاملة بالذات هي التي دفعته إلى بلوغ صولجان القوة العربية العلمية للعروبة الفتية.

والمسافة بين الحيرة وبغداد تبلغ أكثر من تسعين كيلو مترًا، ولبلوغ عاصمة العباسيين ما على الإنسان إلا أن يمتطي أمواج الفرات متجهًا شمالا ليبلغ مدينة أحلامه الرابضة على دجلة. هكذا أجاب الإنسان حنينًا عندما وجه مائة سؤال إلى رجال القوافل وتلقي حنين مائة إجابة. لقد ولد حنين عام ٨٠٩ م وهو العام الذي توفي فيه هارون الرشيد، وقد أثارت الأواني والأجهزة التي كانت موجودة في معمل والده انتباهه واسترعت نظره، لكن هذا الطفل النجيب النحيف لم يعجب بهذه الأجهزة الإعجاب الذي جعله يتجه إلى مهنة والده بل آثر التجارة عليها محتذيًا حذو أنداده.

وفي يوم من الأيام نجد صديقه القديم «حبيشًا» دليل القافلة يبدي رغبته لحنين ابن الصيدلي إسحق في أنه مستعد لنقله معه إلى عاصمة الدولة العباسية مقابل إعطائه مرهمًا من الكافور لعلاج دمل. وفي ذلك الوقت كان بيت الطبيب ورئيس التراجمة أيام هارون الرشيد والمأمون، وهو الفارسي جنسًا، ومن جنديسابور مولدًا، واسمه يحيى بن ماسويه -ملتقى كبار علماء بغداد-، وأراد حنين أن يصبح طبيبًا فأقبل وهو في سن الخامسة عشرة على العلم يرتشفه ارتشافًا مقبلا على أساتذته إلا أنه لم يكن طالبًا غبيًا فالأسئلة التي كان يوجهها إلى أساتذته كانت كالخناجر التي تمزق محاضراتهم. وكان ماسويه مشهورًا بنكاته التي ذاع صيتها في المدينة، كما اشتهر كذلك بلسانه السَّليط، فأهاجته مرة من المرات أسئلة حنين فصاح فيه قائلًا: «عد من حيث أتيت، ومن جهتي احترف حرف الصيارفة التي يحترفها أهالي الحيرة، واترك دراسة الطب هذه ليست مهنة العبادي».

فتأثر حنين من مثل هذه الإجابة وبكى بكاءً مرًا، وترك الدار بعد أن آلمه هذا الاحتقار الذي بدا من ماسويه، فقد كانت عباراته كالسياط التي ألهبته، فقرر أن

<<  <   >  >>