الحظ أن نقرأ أن الحجاج الأوربيين لم تثنهم هذه التحذيرات وقصدوا الشرق العربي المسلم وحجوا إلى الأماكن المسيحية المقدسة فلم يتعرضوا لخطر ما، فقد حدث في ذلك العصر أن الخليفة هارون الرشيد الذي كان يقدر شارلمان ويجله أرسل إليه عن طريق بطريرك القدس الذي كان يباشر وظيفته ويقوم بطقوسه الدينية دون تدخل من الحاكم وفي حرية كاملة مفتاح المدينة المقدسة ومنحه حق السيادة عليها، وقد وقع هذا في الوقت الذي كان فيه غير المؤمنين يواصلون تخريب وتدنيس المدينة المقدسة إثارة للخوف وإدخالًا للفزع في نفوس أبناء ملتهم من الحجاج والسياح. وبينما نجد هذه القيود تفرض على المسيحيين الأوربيين إذ بنا في الشرق العربي نجد سياسة أخرى حكيمة رشيدة، فلا تحديد إقامة ولا عقبات وحواجز تحول دون السعي في مناكب الأرض وتبادل المنافع. فالتاجر العربي كان يتنقل حرا طليقًا في أرجاء الشرق قاصيها ودانيها فهو يتاجر مع الهند والصين وسائر الأقاليم وليس في حاجة لأن يصدر إلى أوربا التي ضريت على أهلها الذلة والتقشف، فسادت الفرقة بين الغرب الأوربي والشرق العربي بخيراته وأضوائه وأصبحت شواطئ البحر الأبيض المتوسط المسيحية مزارًا لا للتجار بل للقراصنة ومهربي البضائع. فالمواني خربة خالية بعد أن كانت تعج بخيرات الشرق وكنوزه والمخازن خاوية خالية حتى دير «كوربي» فقد تعرض للتقشف والحرمان، وكانت الشربة التي تقدم لنزلائه عبارة عن طبق من الكرنب لا طعم ولا نكهة لها تشرب ولا تذاق فلا بهار ولا فلفل ولا زنجبيل ولا مختلف أنواع التوابل التي أصبحت عنصرًا هامًا من عناصر مطبخ الدير. وحتى النبيذ أصبح خبرًا بعد عين وكذلك الحرير. وترتب على اختفاء هذه الأصناف أن أغلقت المحال التي كانت تتجر فيها وعبست الحياة بعد أن ابتسمت زمنًا طويلًا وعادت التجارة إلى حالتها البدائية الأولى وحلت المبادلة محل البيع والشراء.
وحتى الكنائس أصابها الحرمان فخلت من البخور والخمور والزيوت لإضاءة المشاعل والثريات؛ مما اضطرها إلى الاستعاضة عن الزيوت بالشمع المستخرج من عسل نحل الغابات وقنع صاحب الخان بما يصله من الأصدقاء في روما من هدايا قليلة. فمرة يصله قليل من البخور وأخرى بعض القرفة أو قطعة من البلسم التي قد