للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وبعد أن مضى زرياب ثلاثة أيام في قصر ضيافة الأمير استراح فيها من وعثاء السفر دعاء عبد الرحمن للمثول بين يديه وعامله الخليفة معاملة كريمة جداً، فقد دفع له مرتبه قبل أن يتبين صوته وفنه كما أخبره الخليفة أنه سيدفع له مرتباً شهرياً خيالياً هذا عدا الهدايا التي سيمنحها له بين الحين والحين، وبعد أن تعينت المكافأة رجا عبد الرحمن المغني أن يغنيه أغنية، وبعد سماعها اتضح له أنه كان مصيباً في تقديره.

ومع تقدم الزمن نجد زرياب يكشف عن مزاياه وخلاله النبيلة التي تحببه إلى الخليفة وتقربه إليه، فقد كان يتمتع زرياب بذاكرة جبارة، كما كان يحفظ آلاف الأغاني ويحيط بألحانها وأنغامها إحاطة قوية، كذلك كان زرياب عالماً بالفلك والجغرافيا وكان يجيد الحديث عن البلاد الأجنبية وعادات شعوبها وتقاليد أهلها، وعلاوة على ذلك قد امتاز بروحه الجذابة الفياضة ولباقته ومسلكه. فهذا الرجل الجميل الأنيق حسن البزة كان المثل الأعلى للرجل المهذب في الذوق الرفيع. وكل شيء يخترعه زرياب يقلده فيه الآخرون، فكان زرياب مثال الأناقة في قرطبة يحتفظ بشعره طويلاً ويفرقه ثم يقصه حول رأسه، فكان زرياب فناناً أنيقاً يعرف كيف يعني ملبسه ويجاري أحدث الأزياء التي تساير مختلف فصول السنة، فكان يرتدي الأقمشة الخفيفة ذات الألوان الزاهية الحية الجميلة في فصل الربيع والأثواب البيضاء الفضفاضة صيفا ومعاطف الفراء والقلانس شتاء. فقد كان يرتدى آخر ما يتوصل إليه الذوق السليم في بغداد إبان الشتاء. كذلك نجد المغنى يثور على نظام مائدة الطعام، فقد أوجد أطعمة جديدة وأدخل إلى المطعم الإسباني طعام الهليون، وهكذا نجد هذا الفنان المحبب إلى الجميع، هذا السيد الأنيق، قد استولي بلطفه وفنه على قلب الأمير وشعبه، حتى إن القوم كانوا يقصدونه لقضاء حاجاتهم. وهكذا نجد عبد الرحمن الثاني، يؤسس معهداً للموسيقى القصر في قرطبة، وفي هذا المعهد كان يتعلم الهواة الغناء والموسيقى نظرياً وعملياً.

وذلك لأن العرب كانوا منذ أقدم العصور شعباً محباً للغناء، يعشق الغناء عشقاً لا يدانيه فيه شعب آخر، فالموسيقى كانت تلازم العرب من المهد إلى اللحد، فكل عواطفهم كانوا يحولونها إلى غناء فنجد غناء العمل وفرح اللعب وفرح الحب وألمه

<<  <   >  >>