للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فالاتجار مع البندقية كان يتطلب نظامًا خاصًا، فالتاجر «كونراد إيسفوجل» كان له الحق في أن يأخذ معه وإلى «نيرنبرج» بضائع لكن لا يسمح له بالخروج بنقود من البندقية وكان له الحق في مشاهدة قلاع السفن القادمة من صور والإسكندرية والمهدية وكويتا من شرفات فندقه ولا يسمح له بالاقتراب من السفن أو الحصول على قليل جدًا من الفلفل أو تبادل العبارات مع ركابها وملاحيها. كذلك الحال مع تجار «بورجوند» أو «بيمن» أو «ميلانو» أو «فلورنسا» فكان محرمًا عليهم الاقتراب من السفن مسافة سمع الأذن. ومقابل هذه الاحتياطات تتعهد البندقية ألا تشتري بضائع ألمانية خارج الألسنة الأرضية الممتدة في البحر ولا تعرض للبيع بضائعها في الأراضي الألمانية. واستطاعت البندقية عن طريق جزرها الكثيرة المنتشرة في البحر الأدرياتيكي احتكار التبادل التجاري بين الشرق والغرب وكان الأجانب مطالبين باحترام هذه القوانين وتنفيذها، وهذا سر قوة البندقية.

أما جنوه فقد كان موقفها من التجارة يغاير موقف البندقية فجنوه من أنصار حرية التجارة؛ لذلك نجد هنا تجارة الشرق ليست حكرا للدولة بل حرة في متناول جميع التجار، فكانت جنوه سوقًا رائجة للصادر والوارد ومقصدًا للتجار الذين يصدرون إلى أسبانيا وشمال إفريقيا والشرق.

والآن يبدو لنا أن خيرات العرب كانت أساس الإثراء والرخاء لا في الشرق فقط بل في الغرب أيضًا، كما أن هذه التجارة العربية هي القوة الاقتصادية ذات الأثر الفعال في أوربا وأن رفع المستوى الاجتماعي في الغرب إنما مرجعه القفف العربية الملأى بالفلفل، لذلك كان حرمان الأسواق الأوربية من هذه القفف سببًا رئيسيًا في القضاء على التجارة الداخلية أولًا، ةإفلاس التجار ثانيًا، وصهر الذهب المتداول ثالثًا. ففي اللحظة التي قطعت فيها الصلات بين الشرق والغرب تحولت أوربا إلى بلاد زراعية فرجعت القهقري وانحط مستواها الاجتماعي، وحرم الأوربيون من فلفل الشرق وجوز طيبه وسكره، واضطروا إلى أكل الكرنب دون بهار وغصت أسواق أوربا المحلية لا بالتجار بل بالفلاحين يعرضون حبوبهم والأواني الفخارية المصنوعة في منازلهم والسراويل المجهزة من القماش المنسوج في بيوتهم، واستمر

<<  <   >  >>