وكانت تحت تصرف أفراد الشعب الذين كانوا يستطيعون قراءتها وفهمها، وأراد الحكم شيئاً آخر، فقد أسس في قرطبة سبعاً وعشرين مدرسة أخرى خاصة بالفقراء وكان يدفع هو نفقات وأجور أعضاء هيئة التدريس.
وقد ساعدت هذا الحاكم العالم في جميع أوجه نشاط المعرفة في بلاده، وفي تحقيق رغباته العلمية. هذه الثروات الطائلة التي خلفها له والده وأحسن هو إدارتها والتصرف فيها، فأنفق جزءاً كبيراً منها في الكتب ونشرها ومساعدة العلماء وفتح المدارس، فكان يرسل بعوثه العلمية إلى مختلف المراكز الثقافية والعلمية لشراء أو نسخ أمهات الكتب في مختلف العلوم والفنون، وإذا ما أدرك مبعوث الخليفة القرطبي أن عالما في صدد وضع كتاب بادره وقدم إليه المكافأة السخية مقابل حصوله على هذا الكتاب بمجرد الفراغ منه، فقد حدث فعلاً أن كثيراً من المؤلفات التي وضعت في البصرة أو الموصل قد عرفت وانتشرت في الأندلس قبل أن تراها بغداد!
وبلغ غرام الحكم بالكتب أن حرص حرصاً شديداً على شراء الكتب الجديدة وجمعها وقراءتها قبل أن تصل إلى يد غيره لأن حبه لها لم يكن أفلاطونياً بل واقعياً، فيقال إن مكتبة قصره كانت تضم (٤٠٠.٠٠) أربعمائة ألف مجلد قد قرأ جميع ما بها وعلق على بعضها وعلى مؤلفيها، وحقا كان هذا الخليفة مضرب الأمثال في العلوم والآداب وسعة الاطلاع، وكان يقصده الأساتذة والعلماء عبر الصحاري والبحار حيث وجدوا عنده الكرم الحاتمي والعلم الذي لا يجاريه فيه أحد، هذا إلى جانب كونه المسامر اللبق. وكانت شخصية هذا الأمير جذابة حتى أقبلت عليه فئات عديدة من كبار العلماء في العالم الإسلامي بل حتى رجال اللاهوت المسيحي قد تهافتوا عليه، فاكتسب بذلك هذا الخليفة الواسع الاطلاع والأفق، الحليم والواسع الصدر، العالم الأديب، إعجاب كبار رجال الكنيسة الذين توافدوا عليه وانكبوا على دراسة اللغة العربية وآدابها. ولما كان وليا للعهد كلف الحكم الغوطي الغربي الأسقف «جودمار فون جيرونا» وضع كتاب باللغة العربية في تاريخ الإفرنج. كما أن أسقف قرطبة المسمى «ريكديمندوس» الذي كان قد سبق أن أرسله الخليفة عبد الرحمن الثالث عام ٩٥٥ م