للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيقالُ: هذا مما احتجَّ به مَن في قلوبِهِم زَيْغٌ؛ لأنَّ الذين في قلوبِهِم زيغٌ يتبعون المتشابِهَ ويَدَعُونَ المُحْكَمَ، يَتَّبِعُون المتشابِهَ في مثلِ هذه الآيةِ، ويقولون: هذا دليلٌ على أن فِعْلَ العبدِ بمشيئةِ اللهِ ولا يُمْكِنُ لأحدٍ أن يُغَيِّرَ مشيئةَ اللهِ.

نقولُ: سبحانَ اللهِ! أنتم نظرْتُمْ إلى الأدلَّةِ بعينِ أعورَ، والعينُ الباقيةُ عليها غبشٌ أو غمشٌ (١) ليستْ جيدةً، فنظروا بعينِ أعورَ وَرُبُعٍ أو أَكْثَرَ، هناك آياتٌ صريحةٌ في إضافةِ العملِ إلى الإنسانِ نفسِهِ، وأنه بمشيئةِ الإنسانِ، أليس اللهُ يقولُ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]؟ أليس اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقولُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: ٢٨]؟ والآياتُ في هذا كثيرةٌ.

أليس الإنسانُ يُحِسُّ بنفْسِهِ أنه يفعلُ الفعلَ ولا مُكْرِهَ له، أنت تأتي إلى المسجدِ بدونِ أن يُكْرِهَكَ أحدٌ، تَدْخُلُ المسجدَ بدونِ أن يُكْرِهَك أحدٌ، تَخْرُجُ من المسجدِ بدونِ أن يُكْرِهَك أحدٌ، وهذا شيءٌ ملموسٌ، إذن ما معنى كونِنا فِعْلُنَا بمشيئةِ اللهِ؟ نقولُ: معنى فِعْلُنَا بمشيئةِ اللهِ: أننا مَهْمَا فعلنا من شيءٍ فاللهُ قد شاءه، ومشيئتُهُ له سابقةٌ لمشيئتِنا، لكننا لا نعلمُ بمشيئةِ اللهِ إلا بَعْدَ وقوعِ الشيءِ، فنعرفُ أن اللهَ قد شاءه.

فنحن الآن نشاءُ، أنا الآن أشاءُ أن أَتَكَلَّمَ معكم، وأشاءُ أن أُحَرِّكَ يدي، فهل شاء اللهُ أن أَتَكَلَّمَ وأن أُحَرِّكَ يدي؟ نعم. عَرَفْنا ذلك بوقوعِه، لأني أعلمُ علمَ اليقينِ أنه لا يُمْكِنُ أن يكونَ في مُلكِ اللهِ ما لا يشاؤه، وأنا في مُلْكِ اللهِ، والسَّمواتُ والأرضُ كُلُّهَا في مُلكِ اللهِ، فإذنْ لا يُمْكِنُ أن يكونَ في مُلكِهِ ما لا يشاءُ، لكن أنا لا أعلمُ بمشيئةِ اللهِ إلا بَعْدَ وقوعِ الشيءِ؛ ولهذا قال بعضُ العلماءِ: إنَّ القَدَرَ سِرٌّ مَكْتُومٌ لا يَعْلَمُ به العبادُ؛ لأنَّ العِبادَ لا يَعْلَمون به إلا بعد وقوعِهِ.


(١) الغبش والغمش، إظلام الرؤية. انظر: تاج العروس (غبش، غمش).

<<  <   >  >>