للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالشعراء استطاعوا اقتناص هذه الصفات والإفادة منها في تشكيل معان بديعة.

ويقرب من هذا ما نجده في حديث شعراء المدائح النبوية عن الرحلة إلى الحجاز، فإنهم تابعوا سابقيهم في وصف الرحلة، وفي إضفاء المشاعر الإنسانية على رواحلهم، ولكنهم استطاعوا أن يضيفوا إلى ذلك مشاعر التقوى واللهفة، ونسبها إلى هذه الرواحل، وأن يشملوها بالمشاعر الدينية التي تغلب على الراحلين إلى الحجاز.

وظلت المشاعر الدينية تحيط بكل ما يقوله شعراء المدائح النبوية في مقدماتهم، وحتى عند ما وصفوا الطبيعة تمهيدا للمدح، لم يجدوا فيها ما يبهج النفس فقط، بل جعلوها مظاهر لقدرة الله تعالى، وأنطقوها بشكره وتسبيحه، مثل قول الصرصري:

والورق تهتف في الأوراق شاكرة ... إحسان مبتدئ بالفضل مشكور «١»

وعلى الرغم من أن شعراء المديح النبوي استخدموا المعاني التقليدية في المديح، إلا أن نسبها إلى الرسول الكريم أخرجها عن تقليديتها، واستطاع الشعراء المثقفون ثقافة دينية كبيرة أن يولّدوا من المعاني التقليدية معاني جديدة، لها صبغة دينية، فجاءت بديعة جديدة، فكم أثنى الشعراء على أخلاق ممدوحيهم، ولكن لم يخطر على بال أحدهم أن يتحدث عن مصادر أخلاق الممدوح، وأن يميّز بين هذه المصادر، مثلما فعل البوصيري في الثناء على أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال:

خلائقه مواهب دون كسب ... وشتّان المواهب والكسوب «٢»

وحين أثنى البوصيري على تقوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واجتهاده في عبادته، عبّر عن ذلك بمعنى بديع يقرب من الجدة، ضربه مضرب المثل، فقال:


(١) ديوان الصرصري: ورقة.
(٢) ديوان البوصيري: ص ٥٠.

<<  <   >  >>