للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ميلاد المسيح عليه السلام]

وكانت السيدة مريم في شبابها تتعبد الله عز وجل في المحراب، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧] اللهم ارزقنا يا رب من حيث لا نحتسب يا رب العالمين.

أما لحظة الولادة فإنها أشد من حالة مريم وهي بدون حمل، ولذا فإن المرأة تضع وحولها فريق من المساعدين والمساعدات.

أريد أن أقول: إن القرآن عبارة عن دستور المسلم، وما علينا إلا أن نتخذ الأسباب، قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٢ - ٢٣] أي: ألجأها ألم الوضع إلى جذع النخلة، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:٢٣ - ٢٤] وفي قراءة: (فناداها مَنْ تحتها) وكلتاهما صحيحتان، وقراءة ابن عباس (مَن) بمعنى: الذي، أي: أن عيسى هو الذي نادى، ولذلك قال أهل العلم: الذي نادى من تحتها حقيقة هو عيسى ليس جبريل؛ لأنها لما جاءت به وهو رضيع قال لها قومها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:٢٨ - ٢٩] فلو لم تعهد منه الكلام من قبل لما أشارت إليه، إذاً: بدليل أنها سمعته يتكلم قبل ذلك فأشارت إليه من أجل أن ينقذها من هذا الموقف ويشفع لها ويشهد معها.

فلما أشارت إليه استغرب اليهود وقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:٢٩].

فأنطق الله عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠] فأثبت عبوديته لله؛ ليرد على جميع الفرى والأكاذيب القائلة أنه ابن الله أو أنه هو الله.

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:٣٠] وآتاني فعل ماض، ومعناه: أعطاني، فالله عندما يتحدث ليس هناك ماض أو مستقبل، فإن الزمان ملك لله عز وجل، وإذا أراد الله شيئاً كان، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:٩٦] وهو لا يزال غفوراً رحيماً، وفي قواعد اللغة العربية أن كان لا تدل على الماضي فقط، وإنما تدل على الماضي والحاضر والمستقبل، أي: كان الله غفوراً رحيماً في الماضي وما زال غفوراً رحيماً في الحاضر، وسوف يظل بمشيئته وبفضله ورحمته غفوراً رحيماً في المستقبل، فاللفظ له مدلولات في اللغة العربية.

وقوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٤ - ٢٥] أي: قال لها سيدنا عيسى عليه السلام: لا تخافي ولا تحزني، والقرآن لا يأتي بمترادفات فالخوف شيء والحزن شيء آخر، مثل قوله تعالى وهو يمن على قريش: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٤]، فإذا أمن شعب في لقمة عيشه وحريته سوف تأتي نتيجة طيبة من هذا الشعب، أما أن تحارب الناس في لقمة عيشها وفي أمنها فستكون هنالك نتيجة سيئة.

ذكر لي أحد الأساتذة أنه في كل يوم جمعة يضع حباً للعصافير في البلكونة ليحصل على ثواب، وفي يوم من الأيام وضع الحبوب ففوجئ بأن العصافير لا ترضى أن تنزل، اكتشف أنه نسي باب البلكونة مفتوحاً، فالعصافير فكرت أنه عمل لها فخ من أجل أن يمسكها، فتأمين الناس من الخوف أمر مهم فإن العصفورة إذا لم يأمن لا تنزل، ولذلك قال ابن القيم: طائر الطبع -أي: الهوى- يرى الحبة، وعين العقل ترى الفخ فتقول: حذار! حذار! فالعاصي يرى المعصية حلوة، فينظر إلى امرأة ماشية، أو إلى فيلم، أو يسمع نكتة، أو حاجة جيدة، لكن لو فكر بقبله فإنه سيرى الفخ، وسيعلم أن الشيطان يضحك عليه، ويضع السم في العسل.

وقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٥] أمرها الله تعالى بأن تهز جذع النخلة وهي متعبة بآلام الوضع والولادة، وقد رزقها سابقاً وصحتها جيدة وبدون مجهود، وفي هذا درس للمسلمين بأن يأخذوا بالأسباب ويستعينوا بالله ولا يعجزوا، فالمزارع عليه أن يبذر الحب ويقول: يا رب! ولا يكون طوال السنة نائماً، كالطالب الذي لا يذاكر فيرسب فيحتج بالقضاء والقدر، فالمطلوب منه أن يتخذ السبب ويذاكر جيداً.

وقوله تعالى: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:٢٥] ما الحكمة من ذكر الرطب في هذه الآية مع أن الشام مليئة بالتفاح والحوامض وغيرها؟ فقد وجد علماء الكيمياء العضوية أن الرطب فيه مركب يوقف النزيف عند المرأة بعد الوضع، وهذا المركب لا يوجد إلا في الرطب فقط أما التمر والبلح الناشف فلا.

فعلى المؤمن أن يطرق السبب والله عليه فتح الأبواب، والذي يمسك باب الله يعطيه مفتاحه، والذي يريد الغنى في الآخرة ربنا عنده الدنيا والآخرة، والذي يريد الدنيا الله يعطيه الدنيا، والذي يريد الآخرة يعطيه الله الدنيا والآخرة؛ لأن الله يقول: يا دنيا! من خدمك فاستخدميه، أي: الذي يبقى عبداً لك فاستعبديه، ومن استخدمك فاخدميه.

فالإنسان إما في حالة حزن أو هم أو غم، والحزن هو ألم النفس على الماضي، والغم هو ألم النفس في الحاضر، والهم هو ألم النفس من الخوف من المستقبل، لكن المؤمن بفضل الله ما فات منه لا يندم عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>