سبق الحديث عن الوضوء وآداب دخول دورة المياه، وبيان أن الوضوء ظاهري وباطني، فإذا كنت أنظف الأماكن التي تقع عليها نظرة المخلوق؛ فلابد من أن أنظف المكان الذي يقع عليه نظر الخالق عز وجل، ففي الحديث:(إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وقد قلنا: إن الطهارة في الصلاة تشمل طهارة البدن وطهارة الثوب وطهارة المكان، ثم ذكرنا الطهارة الباطنة، وهي طهارة الجوارح من المعاصي، وطهارة القلب من الحقد والحسد والغل والضغينة، وطهارة السر عما سوى الله عز وجل.
وقلنا: إن كثيراً منا كاذب في صلاته، فعندما أكبر تكبيرة الإحرام وأقول:(الله أكبر)، فمعنى كلمة (الله أكبر) أن الله أكبر من كل شيء، فالله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء، فلو غفلت فذكرت الزوجة ومرض الأولاد والجار السيئ وصاحب البيت والمستأجر والمدير لصارت هذه الأمور -والعياذ بالله- أكبر عندك من الله، فستكون الزوجة أكبر، والابن أكبر، والمال أكبر، والرزق أكبر! لكن العبد المؤمن يوقن أن الله أكبر، ولذلك فإنه حين يرفع يديه يلقي الدنيا خلفه ويستقبل الله بوجهه وقلبه، مثل أحد الصالحين الذي كان يقف في الصلاة فيضع الجنة عن يمينه، والنار عن يساره، والصراط تحت قدميه، والكعبة بين حاجبيه، وملك الموت وراءه يظنها آخر صلاة، ويتبع ذلك بالإخلاص في النية، ثم لا يدري أقبلها منه رب العباد أم لم يقبلها، فهذه هي الصلاة.
ولذلك روي أن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم صلى عند أم سلمة، فتقدم خطوات، ومد يده كأنما يريد أن يأخذ شيئاً، ثم تراجع، ثم أكمل صلاته، فلما أنهى الصلاة قالت أم سلمة: ما هذا يا رسول؟! فقال: أرأيتني يا أم سلمة؟! قالت: نعم، نظرت إليك تقدمت إلى الأمام ومددت يدك ثم أعدتها، ثم عدت إلى الوراء، وأكملت الصلاة، فقال:(بينا أنا أصلي إذا بباب من أبواب الجنة يفتح، وإذا بي أرى عنقوداً من عنب يتدلى من غصن من أغصان أشجارها، فمددت يدي لأقطف لتأكلي منه يا أم سلمة، فقيل لي: إنك ما تزال في الدنيا يا محمد)، فطعام الجنة لا ينفعك في الدنيا، وطعام الدنيا سيريحك الله منه في الجنة؛ لأنه لا ينال إلا بمشقة، فالدنيا لا يأتي فيها الرزق ولا العيش إلا بالكد، وأما الجنة فقد قال تعالى عنها:{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:١٤]، تنزل إلى فمه، ويرى الطائر في سماء الجنة، فيعجبه فيقع مشوياً بين يديه.
وليس بينك وبين هذا النعيم سوى الصبر، فالمسلم صبور؛ لأنه يرجو ما عند الله عز وجل، فإذا حرم في الدنيا من نعمة الله عز وجل سيعوضه الله خيراً منها يوم القيامة.
والمرء يأكل في الدنيا عن جوع، وفي الجنة لا يوجد جوع ولا عطش، وفي الدنيا لو أكلت فأكثرت فإنك تصاب بالتخمة ولكن في الجنة لا توجد تخمة، فلو أكل المرء ألفي سنة لما شعر بالتخمة.
ثم إن أكل الدنيا له فضلات، وأما في الجنة فلا بول ولا غائط ولا مني ولا مخاط ولا عرق، بل تخرج فضلات الأكل على جسد العبد برشح كريح المسك.
فإذا دخلت في أمر الصلاة، فقلت:(الله أكبر) فكأنما ألقيت الدنيا خلف ظهرك واستقبلت الله رب العالمين.
وأول ركن من أركان الصلاة النية، وقد أجاز الفقهاء التلفظ بالنية في الوضوء، فيمكن في دورة المياه أن تقول: نويت الوضوء، لكن العمل وحده مقترن بالنية، فعند دخول الوقت أشمر كمي، إذاً أنا أريد أن أتوضأ، فهذه نية.