للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المخلصون المتابعون وأسرار الإخلاص]

الناس أقسام أربعة: فقسم فيه إخلاص ومتابعة، وقسم لا إخلاص فيه ولا متابعة، وقسم فيه إخلاص من غير متابعة، وقسم فيه متابعة ولكن لغير الله عز وجل.

والإخلاص فيه أسرار ثلاثة: الأول: أنه لا يطلع عليه ملك مقرب فيكتبه؛ لأن الإخلاص كما قال الله فيه: (إنما الإخلاص سر من أسراري أستودعه قلب من أحب وأرضى عن عبادي)، فالذي يحبه الله ويرضى عنه يضع فيه الإخلاص.

وقد روي أن سيدنا داود عليه السلام أراد أن يشكر ربنا بعد أن أنعم عليه بنعم عظيمة، فقال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)، فبحث الملائكة عن ثوابها، فلم يجدوا لها ثواباً عندهم، فقالوا: يا رب! كم نكتب ثوابها؟ فقال: يا ملائكتي! اكتبوها لداود كما هي وأنا أجازيه عليها يوم القيامة.

فالإخلاص لا يكتبه ملك مقرب؛ لأنه سر بين العبد وربه.

الثاني: أن الشيطان لا يطلع على قلب العبد المخلص فيفسد الإخلاص فيه؛ لأن الشيطان لا يقدر على المخلص، قال تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:٤٠].

ولذلك لما كان سيدنا يوسف عليه السلام من المخلصين لم يستطع الشيطان إغواءه فقد قال تعالى عنه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤].

فسيدنا يوسف من المخلصين، فلا يستطيع إبليس أن يغويه.

الثالث: أن المخلص لا يفكر بإخلاصه، فالمخلص لا يعرف أنه مخلص.

فقد بعث سعد بن أبي وقاص رسولاً إلى عمر، وقال: اذهب وبشر أمير المؤمنين بأننا انتصرنا في القادسية.

فذهب الرجل فوصل المدينة في نصف الليل، فقال: عما قريب يطلع الفجر، وحين يدخل عمر ليصلي بالناس سأقول له، قال: فدخلت فصليت ركعتين في الروضة الشريفة فرأيت رجلاً ساجداً في المحراب يبكي بكاء مراً، ويقول: يا رب! لائذ ببابك، عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك.

فقال: إن هذا مسرف على نفسه، إنه رجل عمل سيئات، فسأنتظره حتى ينتهي لأحدثه بأحاديث الرحمة، فلعله قانط أو يائس، فبعد أن سلم واقترب عرف أنه أمير المؤمنين عمر، فقال له: يا أمير المؤمنين! ماذا تصنع هنا؟! فقال: يا أخا الإسلام! إن نمت الليل كله أضعت نفسي، وإن نمت النهار كله أضعت رعيتي.

وقد يسأل أحدنا نفسه سؤالاً فيقول: هل يعقل أن سيدنا عمر يخاف هذا الخوف كله، فيقول: يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت نسياً منسياً؟! إنك لو سألت أي سارق في الدولة عن مآله بعد الموت لقال: الجنة، وكأن معه صك الغفران.

إن الصحابة الكبار كانوا على وجل، حتى قال الحبيب: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

<<  <  ج: ص:  >  >>