[الانشغال بالنعمة عن المنعم]
وقد أجاب العلماء عن سبب ثقل الطاعة على العبد فقالوا: لذلك جملة أسباب: السبب الأول: انشغال الإنسان المسلم بالنعمة عن المنعم، كشخص يريد مالاً فقال يا رب! ارزقني ألف جنيه، ويظل يدعو، فرزق ذلك الألف، فشغله ذلك الألف.
ولذا قال أهل اللغة: سمي المال مالاً لأنه مال بالناس عن الحق.
وقد روي أن أبا سليمان الداراني كان له أخ في الله، فأغناه الله، قال: حجب الشيطان بيني وبينه، لأن الشيطان يزين له، فيصير الناس على طبقات، ولكن المسلم للمسلم كالبنيان.
وقد روي أن فقيراً دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بجانب رجل غني، فالغني لم عباءته، مثل بعضهم حين يأتي يوم الجمعة آخر الخطبة ومعه سجادته ينظر إلى الناس باحتقار ويبتعد عنهم ويصلي لوحده، يخاف أن يطأ أحد بجانبه فيصيبه بميكروبات.
فلملم الغني عباءته، فأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (أيها الغني! أخفت أن يعديك فقره، أم خفت أن يعدو عليه غناك؟!)، ولم يكن الغني مثل غني اليوم يسمع الكلام بأذنه اليمنى ويخرجه من الأذن اليسرى، فقال: نزلت له عن نصف مالي يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتقبل يا فقير؟ قال: لا يا رسول الله.
قال: لماذا؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله)، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦ - ٨].
يا ابن آدم! إنك تنزل من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في بطنك العذرة، وقد قلنا: إن فضلات الحيوانات التي يؤكل لحمها طاهرة، فلو لمست ما نزل من الجاموس والبقر والغنم فإني أصلي، ولو مسست ما ينزل من ابن آدم فقد تنجست، فلم تتكبر على خلق الله؟! والكبر عند العلماء أنواع، فإما أن يكون بالمال، وإما أن يكون بالعلم، وإما بالعبادة، وإما بالجاه، وإما بالمنصب، وإما بالأتباع، فبعض الناس يتكبر بالمال، ولذلك يقول سيدنا علي رضي الله عنه: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة والإمام الشافعي يقول: حتى الكلاب إذا رأت غنياً حركت أذنابها، وإن رأت فقيراً كشرت أنيابها.
فالكلاب تنظر إلى الفقير المسكين فتنبح عليه؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه لها، ولكن الغني تتملق إليه: إن الدراهم تكسو الرجال فصاحة وكمالاً.
فقد كان اسمه بكراً، فلما غني سمي (الحاج بكر)، والفارق المال.
قيل لـ قارون: هات الزكاة يا قارون.
فقال: زكاة ماذا؟ قيل: زكاة المال، قال: مال من؟ قيل: مال الله، قال: لا، ليس مال الله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨]، وهذا طبع الناس كلهم، يقول المرء: إنني تعبت في السعودية وتعبت في الخليج في جمع المال.
والذين يريدون الحياة الدنيا ينظرون إلى السيارات الفارهة والطيارات ولا يدرون أن من فيها يحملون أمراضاً ومشاكل، فاترك العباد على رب العباد يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:٧٩]، أي: لو أن لنا مثل قارون! فقال المؤمنون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:٨٠] وفي آخر القصة بعدما قال الله عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١] قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:٨٢] فتغير الحال.
ومن التكبر التكبر بالعلم، وهذا من أسوأ أنواع الكبر، فإذا تكبر العالم بعلمه كان -والعياذ بالله- أول من تسعر به النار يوم القيامة، نسأل الله سبحانه أن يبعدنا وإياكم عن طريق هؤلاء.
ومنه التكبر بالجاه وبالمنصب وبالأبناء، فكل هذا من أنواع الكبر.
ومنه الكبر بالعبادة، كأن تذهب إلى جارك فتقول له: يا فلان! لماذا لا نراك في درس ولا في الجامع؟! لماذا أنت هكذا؟! إن آخرتك سيئة يا أخي! وكأن آخرتك أنت هي الطيبة! فادع الله له بالهداية، ولا تظن أنك قد وصلت، فكلنا يطرق الباب عسى رب العباد أن يفتح، وأنت لا تعرف لمن يفتح.
فانشغال الناس بالنعمة عن المنعم سبب من أسباب ثقل الطاعة، فإن انشغلت بالنعمة فإنك تظل تتذكر نعمة الأولاد ونعمة الزوجة ونعمة البيت وتنسى الذي أنعم والذي أعطى والذي وهب، وهو الوهاب الفتاح العليم الرزاق الناصر المعين الستير.