للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أهمية إقامة الحكم بشريعة الله]

قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة)، يعني: الإسلام سينتهي حلقة حلقة (أولها نقضاً الحكم وآخرها الصلاة).

الحكم بكتاب الله وبسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم قد انتهى أمره، فأول شيء ينتقض في الإسلام وينتهي هو الحكم، بشريعة الله، فهذا أول ما يضيعه المسلمون للأسف! تسمع عن شخص قبضوا عليه له ستة وأربعون سرقة، مع أنه لو سرق مرة واحدة قطعت يده، فإذا سرق مرة أخرى تقطع له رجله، فإذا سرق مرة ثالثة تقطع له يده الثانية، ثم تقطع رجله الثانية، فإن سرق مرة أخرى فللحاكم أو الوالي أن يرى ما يراه؛ لأن هذا مفسد في الأرض.

فالله عز وجل لا يفضح العبد من أول مرة، فمن كرمه سبحانه أنه لا يفضحك في الذنب من أول مرة، فمن ستر الله عليك أنه يسترك مرة ومرة ومرة ومرات، لكن إن تبجحت وتماديت كشفك رب العباد سبحانه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتبعوا عورات المسلمين فتفضحوهم، فمن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته).

يعني: إذا كانت عيناك تراقب عيوب الناس وتطلعان على عورات الناس وتبحثان عن المثالب والمعايب عند الناس فإن الله سبحانه وتعالى يتتبع عورتك، وإذا تتبع الله عورتك فضحك داخل بيتك؛ ولذلك الإمام الشاطبي رضي الله عنه كان يقول: عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم من يزن في بيت بألفي درهم في بيته يزن بربع الدرهم إن الزنا دين فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلم من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم فأنت إذا نظرت إلى عورات ومحارم الناس يسلط الله عليك من ينظر إلى محارمك، فلو نظرت أنت إلى محارم الناس ماذا أخذت منهم؟! ولو نظر هؤلاء الناس الذين نظرت إلى محارمهم أو خضت في عوراتهم بعينيك فماذا أبقوا لك؟! فإذا كنت تنهش في عرض الناس فكل الناس ينهشون في عرضك، وإذا كنت تعير بالذنب أخاك فإن الله يعافيه ويبتليك.

ولقد ثبت أن امرأة حلفت بالله أنها كانت تزور قريبتها، وعند قريبتها ولد فيه مرض -نسأل الله أن يعافي مرضانا ومرضى المسلمين- فأقسمت هذه المسلمة بالله أنها كلما كانت تذهب تزور هؤلاء الناس تعيب عليهم الولد، فربنا رزقها بولد فيه نفس المرض، كما تدين تدان! قال صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، واعمل ما شئت، فكما تدين تدان) صلى الله وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله! فأنت إذاً يجب عليك أن تقرأ التاريخ فستجد أول عروة تضيع من المسلمين الحكم بكتاب الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لحد يقام في أمتي خير لهم من أن يمطروا أربعين سنة)، يعني: لو طبقنا حداً واحداً من حدود الله عز وجل، لكان أحسن لنا من مطر أربعين سنة.

فالموت على توبة خير من العيش على معصية، يعني: الإنسان يموت وهو تائب منيب إلى الله راجع إليه أحسن وأفضل بكثير من أن يعيش وهو عاص؛ لأن مسألة الإمساك بمن يتعاطى المخدرات علاجها بسيط جداً، قبض عليه وثبتت التهمة، لكن الكارثة أن ترى محامياً يدافع عن تاجر المخدرات، فيجب على القاضي أن يحكم على المحامي كما يحكم على تاجر المخدرات، فيكونا مع بعض، وما أدى إلى الحرام فهو حرام؛ ولذلك سيدنا الحبيب لما جيء بالمرأة المخزومية التي سرقت وأراد قطع يدها، فشفع فيها أسامة، فقال له رسول الله: (أتشفع في حد من حدود الله؟!).

ثم سيدنا الحبيب صعد المنبر وكان إذا غضب يظهر منه عرق في جبهته صلى الله عليه وسلم، وكان يغضب إذا انتهكت حرمة من محارم الله، فقال: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه) الشريف أي: ذو المكانة، (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).

ولذلك هو كان يقدم أهله في المغرم ويؤخرهم في المغنم، في غزوة بدر خرج نفر من المشركين وقالوا: أخرج لنا أكفاءنا يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا علي، وهو ابن عمه وزوج ابنته، وقم يا حمزة، وهو عمه، وقم يا أبا عبيدة وهو ابن الحارث بن عبد المطلب، فهؤلاء الثلاثة كانوا أول من يبارز في غزوة بدر، وفي ساعة توزيع الغنائم هم آخر أناس، فليس تولي الكرسي وسيلة للغنى! وليس هذا فحسب، بل كان يقول: (يا بني هاشم! يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! لا يأتيني الناس بحسناتهم يوم القيامة وتأتونني بذنوبكم تحملونها -أو أوزاركم- على ظهوركم تقولون: أدركنا يا محمد، لا أقول لكم إلا ما قاله العبد الصالح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨] اللهم قد بلغت! اللهم فاشهد).

سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أول ما تولى دخل على زوجته فاطمة من أجل أن يصلح البيت أولاً؛ لأن البيت لو صلح صلح من كان في البيت.

المتصدرات للحركة النسائية في مصر، تبحث عن حياتهن فتجدهن فاسدات وفاشلات في الحياة الزوجية، وفاقد الشيء لا يعطيه، تجد واحدة فاشلة في الحياة الزوجية ومتصدرة، هل هذه هي التي تصلح أمر النساء؟! نحن نريد قدوة، فالمسلم عندما يرى القدوة تصلح حاله وكما قلنا: عمل رجل بألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل.

وهذا عمر رضي الله عنه أول ما تولى دخل على فاطمة بنت عبد الملك زوجته وبنت عمه، وكانوا يعيشون أيام عز ومال من قبل، فقال لها: يا فاطمة! لقد توليت أمر المسلمين، وسوف أعيش على الحصير، فأمرك إليك إن شئت المواصلة فواصلي، وإن شئت الفراق فالأمر إليك.

فقالت: بل أعيش على الحصير لأدخل الجنة، وعاشت فاطمة على الحصير تقول: كنت أستيقظ بالليل فأرى عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينتفض، فأقول: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ يقول: كلما أتذكر أنني مسئول عن المسلمين أذكر اليتيم الجائع، والمسكين العاري، والأرملة التي لا تجد لأطفالها طعاماً، وأظن أنهم خصومي يوم القيامة، وربما لا تقوم لي حجة، وإنا لله وإنا إليه راجعون! جعلوا يقسمون المال عنده داخل بيت المال، فوضع يده على أنفه ليسدها، فقيل: ما هذا يا عمر؟ فقال: وهل ينتفع منه إلا برائحته! كيف أشم شيئاً ليس من حقي؟! هذا كلام نقوله ونفضفض، ونسأل الله السلامة.

وكان أبو بكر يدعو قائلاً: يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ادع هذه الدعوة الصالحة لا تنساها: اللهم يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

ومن كرم الله علينا أن الله إذا ستر عبداً في الدنيا فهو أكرم من أن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ما دام ستر في الدنيا فيكون قد ستر في الآخرة، لكن نريد دعواتك، ندعو لك بالستر الجميل، اللهم سترك الجميل يا رب! نحن نذكر قصة المرأة لما جيء بسارق فقطع عمر بن الخطاب يده، وجاءت أمه باكية: يا أمير المؤمنين! أتقطع يده من أول مرة! قال لها: يا أمة الله! ما كان الله ليفضحه من أول مرة، فدخل سيدنا علي على الولد بعدما قطعوا يده، وقال له: أستحلفك بالله، كم مرة سرقت؟ قال: إحدى وعشرين مرة، تركه يسرق مرة ومرتين وثلاثاً.

وفي إحدى محاكم الشام قبل أن تترك الشريعة في بلاد المسلمين أقيم الحد على شاب عمره عشرون سنة، فجاءوا به إلى القاضي، فنطق القاضي بالحكم على أن تقطع يده، فصرخ الولد وقال: اقطعوا لسان أمي قبل أن تقطعوا يدي، قال: سرقت بيضة من بيت الجيران، فزغردت أمي وقالت: لقد صار ابني رجلاً، مثلما تدلل ابنك عندما تجده يضرب ابن عمه فتفرح بأن الولد قد كبر، علمه الأدب بدلاً من تعليمه قلة الأدب.

إذاً: الآن الولد يشرب الدخان من أجل أن يكون رجلاً، فتراه يضعه في فمه، ويخرجه من أنفه وأذنيه، إذاً كيف يكون هذا رجلاً؟! فلو وجد الصحبة الطيبة والأم الصالحة، لما كانت هذه حاله: (لحد واحد يقام في الأرض خير لأمتي من مطر أربعين سنة).

إذاً: الله عز وجل كتب على الأمة المحمدية أن أول عروة تنتقض وتضيع: الحكم بالشريعة، وآخر عروة تنقض الصلاة، فما دام الحكم ضائعاً ماذا بقي لنا؟ إذاً لا بد أن نتمسك بالصلاة.

<<  <  ج: ص:  >  >>