[ذكر بعض سيرة زينب رضي الله تعالى عنها]
فسيدنا الحبيب أول ما أنجب أنجب السيدة زينب كبرى بناته، فعندما كبرت زينب وبلغت ثلاث عشرة سنة أو دونها زوجها من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع، وأمه اسمها هالة، وهالة هي أخت السيدة خديجة.
وظل أبو العاص على كفره بعد البعثة، وأما زينب فقد أسلمت وآمنت برسالة أبيها، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ورزقت زينب بـ أمامة وعلي، فلما كانت غزوة بدر اشترك أبو العاص بن الربيع مع قومه من مشركي مكة ضد الجيش المسلم ووقع في الأسر، فالرسول وزع الأسرى، فقال: يا فلان! خذ فلاناً وفلاناً وفلاناً، ويا فلان! خذ فلاناً وفلاناً وفلاناً، فوقع أبو العاص بن الربيع في سهم بلال مؤذن رسول الله، فبدأ الأغنياء من أهل الأسرى يأتون من أجل أن يدفعوا الفدية، وكان مقدارها أربعة آلاف، فيدفعون الفدية ويأخذون أسيرهم، فجاء عبد الله بن الربيع أخو أبي العاص زوج زينب من أجل أن يفتدي أخاه، وكانت السيدة زينب في مكة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب تفدي زوجها يا محمد، فقد بعثت بهذه الصرة فدية لزوجها.
ففتح الرسول الصرة فبكى بكاء مراً؛ فقد كان فيها عقد للسيدة خديجة أعطته لابنتها زينب في ليلة عرسها، فبعثته السيدة زينب تستدر به عطف رسول الله، فعندما تذكر ابنته وتذكر زوجته السيدة خديجة قال: إن شئتم أن تردوا عليها أسيرها فردوه، فسيدنا بلال قال: والله لأردن أبا العاص لا بعقد ولا بمال، ولكن إرضاء لله ورسوله.
فعاد أبو العاص واطمأنت زينب عليه، فحين دخل بيته قال: يا زينب! لقد حان الفراق، فلقد وعدت أباك بأن أردك إليه، فإن الإسلام فرق بيني وبينك، وكانت السيدة زينب مسلمة وهو مازال على شركه، فوجب التفريق عندئذ، فقال لها: إن أخي سيأخذك إلى منطقة كدى -وهي على بعد ثمانية كيلو من الحرم- وهناك سوف ينتظرك زيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب ليصحباك إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الوقت كانت السيدة زينب حاملاً بالحمل الثالث، فخرج أخو أبي العاص بن الربيع من أجل أن يسلم السيدة زينب لـ زيد وعلي خارج مكة، وإذا بالمشركين وراءه، فقالوا: إلى أين تذهب، قال: أذهب لأسلم زينب بنت محمد لتذهب إلى أبيها، وكان المشركون قد خرجوا من هزيمة بدر في تلك اللحظة، وكل واحد منهم قد قتل له قريب، فقام أحد أولئك المشركين وشد الهودج الذي ركبت عليه، فوقعت السيدة زينب على صخرة، فنظر عبد الله بن الربيع فوجد حولها بركة من الدماء، فإذا بها قد أجهضت ما في بطنها، فسل السيف وجهز كنانته بالنبال وقال: والله ما اقترب منها أو مني أحد إلا قتلته.
وكان كافراً، ولكن أخاه وعد الرسول بأن يعيد إليه ابنته، ومسألة الوعد عند العربي مسألة تذهب فيها الرقاب فلا يخلف وعداً أبداً؛ وهذه من صفات المؤمنين، وهي من الصفات العربية الأصيلة.
لكن أنبه على مسألة في الوعد، وهو أنه ليس من الخلف أن تعد ثم تخلف لعدم القدرة على الوفاء، وإنما الخلف أن تعد وأنت تنوي أن تخلف الوعد، فانتبه لذلك.
فاقترب أبو سفيان من أخي أبي العاص وقال له: يا ابن الربيع! ما أصبت؛ خرجت على القوم، وهم حديثو عهد بهزيمة، وتريد أن تأخذ بنت محمد وتهاجر بها؟! ارجع حتى تهدأ النفوس ثم اخرج بها.
فعاد بها فظلت مريضة أياماً من أثر الإجهاض، وبعد أن تماثلت للشفاء ودعها زوجها ووصلت إلى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت معها علياً وأمامة، فـ علي بعدما هاجر مع أمه كان عمره سبع سنوات، فأدركته حمى فمات لحكمة يعلمها الله، ولم يبق للرسول من أحفاده إلا الحسن والحسين وزينب أولاد فاطمة فقط، وبقية أولاده من بناته ماتوا في حياته، ولم تبق من حفيداته إلا أمامة التي هي بنت زينب، وقد تزوجها سيدنا علي بعد موت خالتها فاطمة.
فالسيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثت في بيت أبيها سنوات، إلى أن طرق الباب طارق بالليل وهي تتذكر الأيام الخوالي، فقد عاشت أياماً بمكة بجوار قبر أمها خديجة، وإخوتها الثلاثة الذكور أموات في القبور، والأحياء من أهلها بعيدون عنها؛ لأن بيت النبوة أكثر البيوت ابتلاء، فأكثر الناس بلاء الأنبياء فالأولياء فالأمثل فالأمثل، فإذا كنت تمشي بما يرضي الله والمصائب تنزل عليك تترا فاحمد الله عز وجل، وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فطرق باب زينب طارق، وإذا به أبو العاص بن الربيع زوجها السابق، ولم تتزوج بعد، فجيء به قد أسر وهو في قافلة لقريش أغار عليها أسامة بن زيد ومجموعة من المسلمين بسبعمائة فارس، فأسروا المجموعة كلها، فهرب من الأسر وجاء إلى زينب يستجير بها، فسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطرق أبواب نسائه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كل يوم يمر على بيوت نسائه بيتاً بيتاً ويقول:: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاءت الراجفة تتتبعها الرادفة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه).
ثم يذهب إلى بيت فاطمة يدق عليها الباب، يا فاطمة، يا علي! ألا تصليان، وكان سيدنا علي يقوم الليل ويأتي لينام قبل الفجر قليلاً فيأتي رسول الله ليوقظه: يا علي! ثلاث مرات، وهو يقول له: يا رسول الله إن أرواحنا بيد الله إن شاء قبضها، وإن شاء أرسلها، ويقلب الرسول كفيه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:٥٤].
فالسيدة زينب سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيقاظه لنسائه، وكانت في الحجرة التي بجانبه، فدخلت المسجد مسرعة، وقبل أن يقيم بلال صلاة الفجر قالت: أيها الناس! إني أجرت أبا العاص بن الربيع، فأقام بلال فلما انتهى رسول الله من الصلاة قال: (أيها الناس! أسمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: يا زينب! ونحن أجرنا من أجرت).
ثم قال سيدنا الحبيب: (أعيدوا إلى أبي العاص ما سلبتموه؟)، أي: من القافلة، فأرجعوا إليه كل شيء، فرجع إلى مكة ووزع عليهم أشياءهم، ففرحوا بالتجارة وبالربح، ثم قال: يا معشر قريش! أعادت إليكم تجارتكم؟ قالوا: لقد وفيت يا أبا العاص.
فقال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهاجر إلى المدينة في السنة السابعة من الهجرة، فدخل على سيدنا الحبيب فأسلم وبايع وصار صحابياً، وبعد ذلك بأدب قال: يا رسول الله! أريد أن تعيد إلي زينب؟ فقال: (يا أبا العاص! لقد وعدت فوفيت ونحن إذا وعدنا وفينا، عد إلى زوجتك فهي حل لك) فعاد إليها أبو العاص وعاش معها سنة، وماتت السيدة زينب رضوان الله عليها ودفنها أبوها ونزل في قبرها ونام قليلاً ثم خرج مصفراً وجهه وبكى وقال: (لقد كاد القبر أن ينطبق على هذه المرأة الصالحة، لولا أني نمت في قبرها) صلى الله عليه وسلم.
والسيدة زينب هي التي كانت ترعى السيدة فاطمة؛ لأن فاطمة كانت صغرى البنات، فكانت فاطمة تعتبر زينب أمها الثانية، فكانت أول من حزن لزواج زينب، فشعرت بأن أحداً أتى وأخذ منها أمها، فكانت تقول لأبيها وهي صغيرة: يا أبت! عندما أكبر لن أتزوج، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: لم يا فاطمة؟ فتقول: لأني لا أريد أن أفارقك يا أبي.
فيقول لها: بل أنت معي في الدنيا والآخرة.