[وقفات مع سيرة عمر رضي الله عنه]
من عجائب العظماء رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، أن الواحد منهم لا يهتم برؤية إنسان أبداً.
دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس ولقي القادة المسلمين منتظرين له بالحلل، فجاءهم راكباً على بغلة من المدينة هو وخادمه يركب قليلاً وسالم قليلاً، وقد قال عمر لـ سالم: أنت تركب وأنا أمشي، وأسمعك جزءاً من القرآن، ثم أنا أركب وأنت تمشي وتسمعني جزءاً من القرآن.
لكن الشباب الصائع الفاشل في الدراسة في هذا الزمان يضع شريطاً أجنبياً في سيارته، ويزعجنا ويصدع آذاننا باللهو.
فلما تعبت الدابة قال عمر لـ سالم: كم أنفقنا في حجنا؟ قال له: تسعة عشر درهماً يا أمير المؤمنين! قال له: هذا إسراف يا سالم! قال سالم: تعبت الدابة فماذا نصنع؟ قال عمر له: المسافة التي بقيت أنا أعرفها؛ لأن سيدنا عمر في الجاهلية كان يتولى أمر السفارة لقريش، فمن طبيعة تعامله أنه كان يسافر، وفرق بين فلان مسئول في الخارجية دبلوماسي يكلمك بنعومة ولا تأخذ منه إجابةً أبداً، إلا إذا سألته: ماذا عملت في المباحثات؟ قال: كل شيء على ما يرام، فتقول له: على ماذا اتفقتم بالضبط؟ فيقول لك: في الجدول المعلن نتيجة القرارات المتخذة في الأمور المعتمدة، وكلهم مثل الثعابين هكذا.
يقول رجل يهودي قبل اندلاع حرب الخليج بيسير: يجب أن تعمل أمريكا على أن يعود العرب مرة أخرى حفاة عراة كما كان أجدادهم.
هذه وجهة نظر الغرب فينا، ونحن لابد أن نسأل الله أن ينصرنا، فإنه لما هان الإسلام عندنا أصبحنا عند الأعداء كالذباب، لكن هرقل في الروم، وكسرى في فارس إذا سمعا اسم عمر بن الخطاب يهتزان خائفين، ويبعث إليه أربعة رسل: اذهبوا وانظروا هذا الذي يرعبنا وأنصفوه لي.
وهكذا جاء رسل كسرى إلى المدينة المنورة يسألون عن بيت أمير المؤمنين وكان كسرى يسميه ملك العرب، واليوم يقولون: الزعيم العربي الأوحد، ولا توجد كلمة زعيم إلا عند العرب للأسف، ولقد سمعت عن الزعيم بوش أنه موظف مسكين لا يستطيع أن يكح إلا إذا استأذن من مجلس الكونجرس: هل أكح؟ فإن قالوا له: كح يكح، لا تكح لا يكح.
في سنة تسعة وسبعين ذهب وفد من مصر بلغ عددهم مائة شخص وقابلوا أعضاء الكونجرس فأضافوهم على طعام، وقبل أن يخطب قاطعه عضو في الكونجرس وقال له: قف، الطعام الذي أكلوه هؤلاء المصريون من أين هو بالضبط؟ قال له: ماذا تعني؟ قال: يعني: نحن لا ندفع ضرائب الأمريكان وتأتي الوفود لتأكلها، نحن ندفعها لخدمة الشعب الأمريكي.
فقال لصاحب المراسم: أجبه، فقال له: هذا الطعام تبرعت به الشركة الفلانية، شركة من شركات الدعاية، هي التي أطعمت الوفد الرسمي المصري، فقال له: أكمل خطبتك.
ولو عدنا إلى التاريخ لعرفنا أن سعداً قال لـ عمر بن الخطاب حين قام يخطب: لا سمع ولا طاعة، فقال عمر: لماذا يا سعد؟! قال: لأنك تلبس ثوبين ونحن نلبس ثوباً واحداً، فقال عمر: قم يا عبد الله بن عمر! وأخبرهم من أين جاء الثوب الثاني، فقال عبد الله: إن أبي رجل طوال، فأعطيته ثوبي ليرقع به ثوبه.
وكان البيت الذي يملكه أمير المؤمنين عمر كوخاً صغيراً عليه صوف غنم، فانظروا إلى البساطة في المعيشة، وانظروا إلى العظمة في التخويف؛ لأنه عند الله عظيم، فجاء الرسل الأربعة فسألوا عنه، فقال عبد الله بن عمر: إنه ليس موجوداً.
فقالوا: أين نلقاه؟ قال: قد تلقونه نائماً تحت النخل! فوجدوه واضعاً يده اليسرى تحت رأسه، ويده اليمنى على عينيه لتقيه حر الشمس، وناصباً رجله اليسرى وواضعاً رجله اليمنى فوقها، ويغط في نوم عميق.
فقالوا: هل هذا عمر؟ قال: نعم، هذا عمر.
فجلس رسول كسرى يعد الرقع التي في ثوب عمر بن الخطاب فوجدها سبع عشرة رقعة، ويترجم حافظ هذا المنظر العجيب ويقول: وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عُطلاً وهو راعيها وعهده بملوك الفرس أن لهم سوراً من الجند والأحراس يحميها رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها فقال قولة صدقة أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها فقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
رضوان الله على عمر ورضوان الله على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم على المعلم الأول والقدوة الأعظم أستاذنا صلى الله عليه وسلم وأستاذ البشرية كلها.
نعود إلى قصة حضور أمير المؤمنين عمر ومولاه سالم بيت المقدس، قال سالم: الدابة تعبت، فماذا نعمل؟ قال له: نريحها ثلث الطريق، وأركب أنا ثلث الطريق، وأنت تركب الثلث الباقي، قال له: اقتراح جيد يا أمير المؤمنين! فأراحوا الدابة الثلث، وركب سيدنا عمر الثلث، وبقى الثلث الباقي عند سالم رضوان الله عليه، ركب سيدنا سالم حتى إذا ما رأى مشارف بيت المقدس قال: يا أمير المؤمنين! سأنزل الآن، قال: ولم؟ قال: لقد دخلنا إلى بيت المقدس وأرى البطارقة والقساوسة وقواد المسلمين في الانتظار على أبواب المدينة، قال: لا، ما أنت أحوج بالثواب مني، وما أنا بأغنى منك عن الثواب.
وكان البطارقة والقساوسة لا يعرفون عمر، فأخذوا يسلمون على من يركب الدابة ويقولون: مرحباً أمير المؤمنين! فقال لهم: هذا أمير المؤمنين، فسجد كبير القساوسة وبكى، وقال: قرأنا في كتبنا المقدسة أن من يتسلم مفاتيح بيت المقدس حاكم عادل يدخل إلى المدينة ماشياً وخادمة راكب بثوبه سبع عشرة رقعة، فعدوا الرقع التي في ثوب عمر فوجدوها سبع عشرة رقعة.
فالإسلام يدعى إليه بالقدوة لا بمحاضرات، ولا بكلام فارغ، والإسلام ينتصر بالقدوة، وكل واحد قدوة في مكانه، رب الأسرة قدوة، وربة البيت قدوة، والشاب قدوة، والطالب قدوة، والأستاذ قدوة، والمدير قدوة، والطبيب قدوة، والوزير قدوة، والرئيس قدوة، وكلهم قدوة، فإن افتقدنا القدوة افتقدنا الإسلام، والإسلام فطرة، والفطرة دائماً تتوافق مع الإنسان في حياته.
من منا يحب الخيانة؟ لا أحد.
من منا يحب الغش؟ لا أحد.
من منا يحب الانحراف؟ الفطرة نفسها لا تحب.
وإذا رأيت منحرفاً أو مختلساً أو مرتشياً فاعلم أنه مبتلى وادع الله له، واسأل الله له العافية.
قل: اللهم عافه واعف عنه؛ لأنك إذا رأيت شخصاً مبتلى في جسده، أو شخصاً مشلولاً، أو كفيفاً، أو شخصاً فيه عاهة، فقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.
فمن باب أولى أنك عندما ترى مبتلى في الدين تدعو بهذا الدعاء، وهذا من أكبر الابتلاءات، فاحمد الله على عافية الدين، واحمد الله على أنك تحب مجالس العلم، وأنك تحب المسجد وتحب ذكر الله، اللهم حبب إلينا بيتك ومجالس العلم يا رب العالمين!