لا بدّ هنا من التّذكير بالقاعدة التي بسطنا القول فيها (١) حول وجوب إعمال القراءات المتواترة جميعا، وأن تعدد القراءات ينزّل منزلة تعدّد الآيات، وكلاهما قاعدة اتّفاقية لا يوجد لها مخالف من أهل التوحيد. وإذا نقل عن بعض الأقدمين تشكّكهم في بعض وجوه القراءة المتواترة؛ فإن مردّ ذلك بكل تأكيد هو عدم ثبوت تواتر هذه القراءة عندهم في ذلك الزمان. أما وقد اتّفقت الأمة على التّواتر في هذه الوجوه، فلا مندوحة من القول بأن سائر هذه الوجوه قرآن منزل، بالاتفاق بين سائر أهل الملّة.
كذلك ينبغي القول بأن هذه الاختلافات ليست متناقضة بمعنى أن المفسّر يلجأ إلى هدر أحد الوجهين إذا اعتمد الآخر؛ بل هي ذات معان متضامنة يكمل بعضها بعضا، وقد يدلّ الوجه على ما لا يدلّ عليه أخوه، ولكنه لا ينافره ولا يضادّه، بل يمنحك معنى جديدا يضيء لك سبيل التفسير.
ثم إن هذه الوجوه كما سنرى يسيرة قليلة، وهي لا تشبه في شيء اختلاف الأمم الأولى في كتبها، لا شكلا ولا مضمونا.
فمن حيث الشكل يختلف أهل الكتاب في إثبات أسفار بحالها أو إسقاطها، ربما تتجاوز عدتها عشرات الصفحات، فأين ذلك مما نحن فيه من إثبات فتحة أو ضمة، أو واو أو فاء، أو فتح أو إمالة، أو إدغام أو إظهار.
ومن حيث المضمون فإن اختلافهم في ثبوت الأسفار ينتج عنه تبدل عقائد كاملة، ونقض أول النصوص لآخرها، وآخرها لأولها، واتّهام قوم لقوم بالعبث والهوى والتّحريف والتّبديل، فأين ذلك مما نحن فيه من تكامل المعاني بوجوه القراءات المتواترة المشروعة، وتآزر الوجوه جميعا على إثبات غايات التّنزيل ومقاصده، وتلقي سائر القرّاء وجوه القراءة المتواترة جميعها بالقبول والاحترام، والاتّفاق بينهم أن سائر ما في الصحف تنزيل من الوحي الأمين، ما لأحد فيه أدنى اجتهاد أو اختراع.