ثم فصل القول في الرّد على من زعم نسخ هذه الآية، وتوجيه تعليل القتال بالحرابة، وجملة ردّه في ثلاثة اعتراضات:
الأول: إن النّسخ لا بدّ له من دليل، ولا دليل يدلّ على النّسخ أو التّخصيص.
الثاني: إن ما تضمنته الآية معاني لا تقبل النّسخ، فقد تضمنت النّهي عن الاعتداء، والاعتداء ظلم، والظلم من المعاني المحرمة في كل الشرائع وفي أحكام العقول، والله لا يبيح الظلم قط.
الثالث: لو كان القتل للكفر جائزا، وأن آية منع الاعتداء منسوخة لكان الإكراه على الدين جائزا، لقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢/ ٢٥٦].
وكذلك فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أسر من المشركين أسرى، فمنهم من قتله، ومنهم من فداه، ومنهم من أطلق سراحه، ولم يكره أحدا منهم على الإسلام، ولو كان القتال لأجل الكفر ما كان لهؤلاء إلا السيف (١).
[فائدة:]
اختلف الفقهاء في تحرير طبيعة الجهاد في الإسلام، أهو حرب دفاعية أم حرب هجومية، وقد أكثروا من الاستدلال لما ذهبوا إليه، وأورد كل منهم رأيه، منتصرا له بالأدلة، وسأورد في هذا المقام نقلا لما قدمه كل فريق من الاستدلال ثم أعطف بتحرير ما أعتقده الحق في هذه المسألة والله أعلم.
قال ابن قدامة في المغني: «قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة؛ لم يجز قتالهم قبل الدعوة، وذلك لما روى بريدة قال: كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته، وبمن معه من المسلمين، وقال: «إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم وكفّ عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا، فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا،
(١) انظر: آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي ١١١ وما بعدها.